فهمي هويدي

&

& الحقيقة في ليبيا أصبحت أحد أبرز ضحايا الاستقطاب الحاصل في العالم العربي


(1)


يوم الخميس الماضي 16/10 قام الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي بزيارة للجزائر، التقى خلالها الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، وفي حين أعلنت الرئاسة الجزائرية أن الزيارة تمت في إطار «حرص البلدين الشقيقين على تمتين أواصر الأخوة والتعاون في المجالات كافة»، إلا أن التقارير الصحفية تحدثت عن أن أزمة ليبيا كانت موضوع الزيارة. فقد ذكرت صحيفة «الحياة» اللندنية في عدد الجمعة أن المحادثات انصبت على التحضيرات الجزائرية لمؤتمر الحوار الليبي، الذي دعت إليه الجزائر وبصدد استضافته. وأشارت إلى اهتمام الإمارات بمعرفة التوجه الجزائري بالنسبة للأطراف المدعوة للحوار.


تشكل الزيارة التي استغرقت يوما واحدا أحد مفاتيح فهم الوضع الحاصل في ليبيا. ذلك أنها لأول وهلة تثير تساؤلا حول دوافع اهتمام أبوظبي بمؤتمر للحوار الليبي سيعقد في الجزائر، إلى الحد الذي يدعو ولي العهد لأن يطير إلى الجزائر لتقصى الأمر. (للعلم: بوتفليقة أمضى سنوات منفاه الست (1981 ــ 1987) ضيفا على أبوظبي) في ذات الوقت فإن الزيارة تستدعى إلى الأذهان قصة الطائرات الإماراتية التي قامت بقصف بعض المواقع العسكرية بطرابلس، في أواخر شهر أغسطس من العام الحالي. وهو الخبر الذي بثته صحيفة نيويورك تايمز ونقلته الوكالة الفرنسية وأكدته مصادر وزارة الدفاع الأمريكية في وقت لاحق.


في خلفية الزيارة أيضا معلومات متواترة على دور محوري تقوم به أبوظبي في ليبيا، ليس وحدها ولكن ضمن حلف يضم مصر والمملكة السعودية. وهو ما يشكل منعطفا يتجاوز السياسة التقليدية للشيخ زايد رحمه الله، الذي كان حريصا على أن تؤدي أبوظبي دورا وفاقيا بعيدا عن المحاور العربية. (صحيفة القدس العربي اللندنية انتقدت غارة الطائرات الإماراتية وقالت في تعليق نشرته في 26 أغسطس أن الطائرات الإماراتية قطعت آلاف الأميال لكي تقصف طرابلس. بينما جزر الإمارات التي تحتلها إيران صارت نسيا منسيا، وفيما الطائرات الإسرائيلية تقصف غزة وتهدم أبراجها وبناياتها فوق ساكنيها).


تحري خلفيات الزيارة يلفت الانتباه إلى أن الحلف الذي تشارك أبوظبي في قيادته يساند أحد طرفي الصراع، المتمثل في اللواء المتقاعد خليفة حفتر ومعسكره الذي يتخذ من طبرق قاعدة له، في حين أن الجزائر تؤدى دور الوسيط، وتدعو إلى حوار تشترك فيه مختلف أطراف الصراع تؤيدها في ذلك تونس من المجموعة العربية. وهي في ذلك تؤدي دورها باعتبارها مسؤولة عن الملف السياسي في مجموعة الدول الست المجاورة لليبيا. في الخلفية أيضا سنجد انه في الوقت الذي تساند فيه أبوظبي ومعها السعودية ومصر معسكر اللواء حفتر وجماعته، فإن قطر تساند الطرف الآخر في الصراع. والأولون يصطفون وراء مجلس النواب المنتخب والمتمركز في طبرق، في حين أن الأخيرين يدعمون المؤتمر الوطني المنتخب والذي ادعى الآخرون انتهاء ولايته وهو يتمركز في طرابلس. (ثمة طعن في انتخابات مجلس النواب معروض على المحكمة الدستورية، يفترض أن يتم الفصل فيه قبل نهاية الأسبوع الحالي).


(2)


من يحارب من؟ وماذا يريد كل طرف؟ الإجابة ليست سهلة. لأن الجزء الغاطس من المشهد أكبر بكثير مما ظهر منها. صحيح أن غارة طائرات الإمارات على طرابلس وزيارة ولى عهد أبوظبي كانتا بمثابة إعلان سافر عن دور صراعات الإقليم في أحداث ليبيا. إلا أننا لا نعرف بالضبط حدود ذلك الدور إلا في حدود ما يتسرب من معلومات بعضها لم يتأكد. فحين أعلن اللواء خليفة حفتر إعلانه الانقلاب على السلطة في 21/5/2014، فإن بيانه جرى بثه من قناة العربية التابعة للسعودية، ولها مقرها المعروف في دبي. واستخدام منبر سعودي في أمر بهذه الأهمية لم يكن مجرد مصادفة، ولا يمكن أن يعد سبقا إعلاميا، لكنه كان رسالة سعودية تسلط الضوء على دور الحلف الذي تشكل لمساندة الرجل، في الوقت ذاته فإن المعلومات تشير إلى إقامة القيادات المدنية الموالية للواء حفتر في أبوظبي. في حين أن هناك غرفة عمليات للتنسيق مع الطرف الآخر في الدوحة. وفي الوقت الذي تتحدث فيه هذه الأيام أغلب المنابر الإعلامية العربية الناطقة باسم دول حلف موالاة اللواء المتقاعد وجماعته عن نجاحات عسكرية على الأرض ضد «ميليشيات الإرهابيين» في بنغازي، فإن منابر الطرف الآخر ما برحت تتحدث عن تراجع عناصر الثورة المضادة، وتفصل في عمليات الاغتيال التي مارستها ميليشيات «الصحوات» التابعة لها، وهي مجموعات قبلية تضم أعدادا من خريجي السجون وأنصار القذافي. هذا التعاون واضح في تغطية قناة العربية الموالية لحفتر، ومتابعات قناة الجزيرة المؤيدة للطرف الآخر. حتى ليبدو وكأن كل قناة تتحدث عن أحداث بلد مختلف، في حين أنها معركة واحدة يقرأها كل طرف من زاويته، وحسب ما يتمناه.


الملاحظة المهمة في هذا الصدد. أنه في حين يبدو الاستقطاب واضحا في خطاب الإعلام العربي، فإن وسائل الإعلام الغربية تحللت من ذلك القيد إلى حد كبير. بحيث أصبحت فرصة فهم مجريات الأحداث في ليبيا أفضل لدى من يتابعها. أجد نموذجا لذلك في مقالة تحت عنوان: أخطاء في تحليل الأزمة الليبية، كتبها دبلوماسي فرنسي سابق. اسمه باتريك حايمزاده، ونشرها موقع «أوريان 21» في السادس من شهر أغسطس الماضي. ومن أهم ما ذكره الرجل انه انتقد فكرة توصيف الصراع باعتباره بين معسكرين أحدهما إسلامي والآخر ليبرالي، واعتبر ذلك من قبيل الاجتزاء والتبسيط المغلوط. وأعرب عن دهشته من أن يضم المعسكر «الليبرالي» ضباطا سابقين في جيش القذافي وسياسيين من رجاله وقال إن جميع قادة ذلك المعسكر يشملهم قانون العزل السياسي الذي يمنع من شغلوا مناصب رفيعة في ظل النظام السابق من أداء أي دور في الحياة السياسية الليبية. أما الثوار الذين قاتلوا قتالا شرسا من أجل الديمقراطية ونجحوا في إسقاط نظام القذافي، فقد أصبحوا يقدمون في وسائل الإعلام باعتبارهم إسلاميين متشددين وإرهابيين، وفي رأيه أن تحالف الثوار يضم بعض الإسلاميين حقا، لكنهم لا يشكلون أغلبية، وضرب لذلك مثلا بتحالف مصراتة الذي يخوض المعركة ضد حفتر وجماعته، حيث قال إن نواته الصلبة تتألف من الوجهاء المحللين والتجار. ثمة تحليلات أخرى غربية أرجعت الصراع إلى جذور النزاع بين الشمال والجنوب، وبين سكان تعود أصول أكثريتهم إلى السواحل والمدن، وسكان آخرين يغلب عليهم الطابع البدوي. ومن الباحثين من ربط بين الصراع الحاصل وبين الخلافات المناطقية والقبلية القديمة. (ميشال ديلاميار ــ ايكونومي دي ماتان ــ 17/10).


(3)


في خلفية الأزمة الليبية تبرز عوامل عدة، منها مثلا أن رأس النظام سقط لكن رجاله ظلوا في مواقعهم. فرئيس المجلس الانتقالي كان وزير العدل في حكومة القذافي. ورئيس الحكومة أو المكتب التنفيذي كان أمين مجلس التخطيط في نظامه، ونائب رئيس الأركان كان أحد رموز مواجهة احتجاجات الطلاب في سبعينيات القرن الماضي... الخ. وكانت النتيجة أن حكومتي الثورة والقذافي ظلتا تعملان جنبا إلى جنب. وهذا التشكيل الهجين للسلطة ظل عاجزا عن استيعاب الثوار خصوصا في المنطقة الشرقية التي ظل ضباط القذافي يتحكمون في إدارة أجهزتها. وبسبب رفض استيعاب الثوار ظهرت المجموعات القبلية المسلحة، خاصة في منطقة الجبل الغربي التي برزت فيها قبائل الزنتان، وهو ما رصدته أجهزة الاستخبارات التي مدت جسور الاتصال بين الزنتان وبين بعض الدول النشطة في ليبيا وفي المقدمة منها فرنسا والإمارات. وإذ تنامي حضور القبائل فإنها حاولت أن تعقد مؤتمرا لها في بريطانيا ولما لم يرحب بها طرحت الفكرة على إيطاليا التي اعتذرت بدورها، وانتهى الأمر بعقد المؤتمر في دولة الإمارات. ومنذ ذلك الحين تحولت قبائل الزنتان إلى رأس حربة في الاشتباك مع الثوار، وبدأت ملامح التجاذب بين أنصار النظام السابق الذين تحالفوا مع الرموز الرافضة للتوجه الإسلامي الذي برز في محيط الثوار، وبدا التنافس بين المجموعتين حول إدارة شؤون البلاد. وهو ما كان سياسيا في البداية، إلا أن المجموعة الأولى التي قدمت نفسها بحسبانها تيارا مدنيا ووجها ليبراليا لم تنجح في تحقيق طموحها، فدخل اللواء خليفة حفتر وفريقه على الخط بحيث تحول التجاذب السياسي إلى صراع مسلح، استعان فيه حفتر بالقوى الخارجية التي ساندته عسكريا بعدما تحصن في طبرق، التي كان تمويلها بالعتاد ميسورا عن طريق البحر.


(4)


التطورات التي حدثت في مصر كان لها صداها القوى في ليبيا. فحين قام اللواء حفتر بانقلابه فإنه اتهم مجموعات الثوار الأخرى بأنهم متشددون وإرهابيون. ورفع شعار الدعوة إلى تطهير ليبيا من الإرهابيين. إلا أن الطرف الآخر المؤيد للثورة كانت له كياناته النشطة على الأرض، وقد اكتسبوا خبرة من مرحلة الصراع ضد نظام القذافي. بالتالي فقد كان بمقدورهم أن يسيطروا على طرابلس وان يفشلوا محاولة قوات حفتر التي كانت مدعومة جوا من السيطرة على بنغازي. وفي الوقت الراهن فإن قوات الثوار التي حملت اسم «فجر ليبيا» سيطرت ــ إلى جانب طرابلس ــ على المنطقتين الوسطى والغربية وأغلب منطقة الجبل الغربي. ومجلس ثوار بنغازي لا يزال ثابتا في دفاعه عن المدينة. أما قوات حفتر فإنها تسيطر على منطقة الجبل الأخضر ابتداء من المرج إلى طبرق، باستثناء مدينة درنة، وهى تحاول جاهدة أن توسع من نطاق سيطرتها على الأرض، قبل صدور قرار المحكمة الدستورية. وبالنسبة لمنطقة الهلال النفطي غرب أجدابيا وشرق سرت فهي تحت سيطرة قوات محايدة لم تشترك في المعارك.


في الوقت الراهن هناك دعوات لوقف إطلاق النار وإجراء حوار بين المتصارعين وهو ما يتحرك لأجله المبعوث الدولي الجديد برناردينوليون. كما أن فكرة حوار الفرقاء الذي دعت إليه الجزائر قد تساعد في التواصل إلى الهدنة المنشودة، إلا أن البعد الإقليمي للمشكلة قد يكون عنصرا مساعدا على إجهاض فكرة التوصل إلى مصالحه، ذلك أن رياح الثورة المضادة القوية في الإقليم قد تكون حافزا لإبقاء حسم المواجهة عن طريق السلاح وليس من خلال التفاهم والبحث عن حل وسط ومشترك. يعزز هذا الموقف أن الثورة المضادة حققت نجاحات عدة في دول أخرى، بفضل التحالف مع القوى الليبرالية والمدنية. الأمر الذي يطمئنها ويشجعها على مواصلة التقدم وعدم التوقف أو التراجع تحت أي ظرف، بصرف النظر عن الثمن الباهظ الذي يدفع لقاء ذلك من أرواح الناس وعمران البلاد.
&