أحمد عبد المعطي حجازي

&

& جلست أراجع ما نشرته الصحف خلال الأيام الماضية للدكتور جابر عصفور من تصريحات وأحاديث بحثا عما يمكن أن يكون فيها من خطأ وقع فيه الدكتور جابر أو تجاوز يبرر هذه الحملة الضارية التى شنها عليه السلفيون والأزهريون واستخدموا فيها كل أسلحتهم المحللة والمحرمة فلم أجد ما يبررها.

&

وأنا لست منحازا لجابر عصفور الذى لا يستطيع أحد أن ينكر ما قدمه للحركة الثقافية وخاصة فى النقد الأدبى، لكن المشتغلين بالكتابة والمهتمين بالثقافة عامة يعرفون أن ما نختلف حوله أنا وجابر عصفور ليس أقل مما نتفق فيه، لكننى سأنحى خلافى معه الآن لأدافع عن حقه فى أن يختلف مع رجال الأزهر وغيرهم فى هذه القضية التى لا يستطيع أحد أن يعتبرها قضية شخصية.. وهى قضية الدفاع عن حرية الرأى والابداع، ولا يستطيع أحد أن ينكر شجاعة جابر عصفور فى التعبير عن رأيه فيها، على الرغم من معرفته أن رأيه صادم، وأن المخالفين له كثيرون، وأن مجال الاثارة والتهييج فيها واسع، وأن المنصب الوزارى الذى يفرض على من يحتله أن يتحفظ ويخلط النفى بالإثبات، ويترك لنفسه مجالا للمناورة، خاصة فى الظروف الصعبة التى نمر بها فى هذه المرحلة ـ هذا المنصب لم يمنع جابر عصفور من أن يكون صريحا واضحا. وهذا ما قدرته فى حديثه عن حرية التفكير والتعبير، وعن الممنوع والمسموح به فى الابداع الأدبى والفني.


فى الحديث الذى أجرته معه صحيفة «الوطن» يقول جابر عصفور إنه يحترم دستور الدولة الذى ينص على حرية الابداع والتفكير «فعندما يأتى من يقول إن مصر دولة اسلامية وإن الشريعة هى المصدر الأساسى للتشريع ويستخدم هذه المادة باعتبارها سيفا مسلطا ـ هكذا نشرت فى الصحيفة وصحتها مصلت أى مجرد ـ على حرية الابداع أقول له متأسف. أى نعم الإسلام هو دين الدولة، والشريعة الإسلامية هى مصدر أساسى للتشريعات، لكن بأى معنى وبأى تأويل؟ للأسف بعض رجال الدين يستخدمون الدين كحجر عثرة فى طريق أى ابداع!».


وجابر عصفور فى هذا الحديث يعلن أنه يختلف مع الأزهر فى رفضه لتجسيد الأنبياء فى الأفلام السينمائية. ويقول إن رده على بعض قيادات الأزهر فى بعض القضايا اختلاف فى الرأى «والاختلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية ولا يعنى أننا أعداء».


كيف رد علماء الأزهر على ما قاله جابر عصفور؟


قالوا إن «عصفور» هكذا! وغيره من المتطرفين اليساريين يمارسون هوايتهم فى الإساءة إلى الأزهر منذ الستينيات من القرن الماضي! وإنه لا يعى ما يقول! واتهموه بضرب الثوابت! والوقوف فى خندق الإخوان والسلفية وجميع الخوارج! وباحراج الحكومة! وقالوا إنه مفلس فكريا! وليس لديه عمل حقيقى يقوم به فى وزارته! واستعدوا عليه رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية وناشدوهما أن ينظرا فى أمره؟!


ولا أظن أن القارئ العزيز فى حاجة لمن يلفت نظره لهذا البون الشاسع بين لغة جابر عصفور الهادئة المهذبة وهذه العبارات التى استخدمت فى الرد عليه ولم تخل مما يلجأ اليه العاجز حين لا يجد فى جعبته ما يفند به حجة خصمه فيسب ويشتم. ويهدد ويحرض.


وما الذى يمكن أن يرد به هؤلاء السادة على من يقول إن الدستور المصرى ينص على حرية التفكير والتعبير؟ هل هناك من ينكر هذه الحقيقة؟ وما الذى يمكن أن يردوا به على من يقول لهم إن بعض رجال الدين يجعل الدين سيفا مصلتا على حرية الفكر والإبداع؟ هل يستطيعون أن ينكروا ما حدث لعلى عبدالرازق، ولطه حسين، ولنجيب محفوظ؟ وما صدر عن الأزهر فى تحريم التصوير والنحت؟ وهل ينكرون أن الأزهر اعترض على عرض مسرحيات الشرقاوى عن الحسين بن علي؟!


وجابر عصفور لم يختلق إذن ما ذكره عن اتخاذ الدين سيفا مصلتا على الابداع. ولم ينكر مع هذا على علماء الأزهر أن يكون لهم أو لبعضهم رأى يخالف رأيه، وإن أنكر عليهم أن يستبدوا ويفرضوا رأيهم فرضا ويتحولوا بذلك إلى سلطة دينية ويتنكروا بذلك لمدنية الدولة ويحولوها إلى سلطنة دينية كما فعل الإخوان وكما تفعل داعش. وتلك هى القضية!


أن يكون للأزهر رأى يحرم أو يمنع تجسيد الأنبياء فى الأعمال الفنية، هذا من حقه، لكن ليس من حقه أن يفرض هذا الرأى أو يعطل به مادة فى الدستور تعتبر أساسا فيه وركنا من أركانه. وإلا فالدستور الذى يتجاهل حرية التفكير والتعبير أو يسمح لأى هيئة ولأى سبب بتعطيلها وافراغها من محتواها دستور باطل لا قيمة له، لأن الذى يعطل حرية التفكير يعطل كل الحريات. وهو إذن يقنن الطغيان ويضفى عليه شرعية زائفة.


وليس معنى هذا أن كل ما تأتى به الحرية حق أو صواب. فالحرية لا تحمى من الخطأ الذى يقع فيه الفرد الحر. ولكن الحرية تسمح دائما بتصحيحه لأنها تعطى كل المواطنين حقهم فى المراجعة والمساء لة والنقد والمعارضة والتصحيح والتغيير. على عكس العبودية التى تحرم الجميع من حقهم فى الحر ية أى من إنسانيتهم، ثم لا تحمى أحدا من الوقوع فى الخطأ، ولا تسمح لأحد بالتصحيح أو التصويب. لأن الطاغية يفعل ما يشاء ويحكم كما يشاء ولا معقب لحكمه، ولأن المحكومين بطغيانه لا رأى لهم ولا حق فى تعقيب أو تصويب.


ونحن نعرف أن رجال الدين فى العصور الماضية كانوا سندا دائما للحكام الطغاة الذين كانوا فى حاجة لمن يحول سلطتهم إلى التزام دينى يمنع المحكومين من المعارضة والمقاومة ويجعل الامتثال للحاكم المستبد خضوعا لأمر الله.


لكن الطغيان الذى استند فى أوروبا خلال العصور الماضية إلى السلطة الدينية لم يكن يستند عندنا لمثلها، ولهذا جمع بين السلطتين. فالخليفة أو السلطان حاكم وإمام وبهذه السلطة المزدوجة استطاع أن يستخدم من استخدمهم من رجال الدين.


وقد ذهبت هذه العصور المظلمة إلى غير رجعة وأشرقت على البشر شمس الديمقراطية فمن حقنا اليوم أن نختار حكامنا، وأن نسقطهم. ومن حقنا اليوم أن نكتب ونصور، وأن نفكر ونعبر، وإن نخطيء ونصيب. لقد بلغنا سن الرشد ولسنا فى حاجة لأوصياء!
&