نسيم الخوري
&
أحياناً تصاب التحالفات الدوليّة، خصوصاً العسكرية منها بالفتور والتآكل المؤقّت أو المؤجّل . السبب أن هويّة أو هدفاً ما يطفو على السطح فتؤازره وسائل الإعلام، وفق خطّة محكمة وتظهره فيضع الرأي العام يديه على قلبه وعينيه على الشاشات وينتظر، لكنّ قصّة الحسم تبقى تراوح في حقول المستحيلات والبحث عن قطف المصالح . تكفي مقارنة سريعة بين التحالف الأوّل الذي أخرج صدّام حسين من الكويت، والتحالف الثاني المتكفّل ب"داعش"، لنجد عالمين مختلفين تماماً . ترشدنا الظروف والمعطيات والمصالح والأعضاء في التحالفين إلى كميّة من المتغيرات يصعب ضبطها وترقّب نتائجها وتداعياتها، لكنّ المشترك بين التحالفين يمكن إيراده بسهولة وهو أنّ القيادة هي نفسها أي أميركية، وكذلك الهدف هو عينه أي الأرض العربيّة .
&
جاءت عمليات التحالف الأوّل، الجواب السريع والحاسم على صفعة صدّام للانتباه العالمي باحتلاله الكويت في 2 أغسطس/ آب ،1990 وصدور القرار 660 بإدانته الذي عزّز التحالف المتأهب ليفتح النيران من أبواب جحيمه منتصف ليل 17 يناير/ كانون الثاني 1991 . التحالف الأوّل هو علامة فارقة في تاريخ الحروب الذي جعل جيشاً بريّاً عراقياً جرّاراً ينهار وينهزم من الجو فوق حمم الطيّارين وشاشاتهم بالأسود والأبيض . قاموا بمهامهم من دون تزويدهم بالمعلومات الدقيقة التي كما يقول الأميركيون في أحاديثهم العسكرية: "قد تطيل أعمارهم وترفع من أعداد ضحاياهم" . جاءت تلك الحرب السريعة لتطوي مفاهيم الحروب البريّة في خزائن النسيان . فالمغيرون مدجّجون بالهندسة والخرائط وآلات التصوير الدقيقة الإلكترونية التي تنقل الوقائع إلى القواعد، وفقاً للأوامر . نعم نفّذوا المهمّة، وفق برامج حربيّة وأهداف مرسومة سلفاً على أنغام موسيقية أوبرالية خفيفة عبقت بقمرات القيادة، ووفق الموجات المتنوعة التي رسمت "حرب النجوم": موجة الغيوم الإلكترونية لفّت سماء العراق وعزلته عن الدنيا، ثمّ موجة السيطرة العسكرية على قدرات العراق الجويّة وإبادتها، ثمّ موجة الهجوم العاصف عبر تشكيلات من 3000 طائرة أسقطت 95000 طن من القنابل تديرها قواعد عسكرية منتشرة في الشرق الأوسط وأقمار اصطناعية لم تستعمل من قبل، ثمّ موجات التدمير والصواريخ والإعلام المقنّن عبر مصافي غرف العمليات التي جعلت النصر واقعاً منذ الساعات الأولى . وكانت موجة صدّام أمراً بانسحاب قواته من الكويت من ملجئه المضاد للنووي تحت فندق الرشيد وفوق شرفاته تتزاحم الشاشات وفي طليعتها الC .N .N التي وحّدت العيون العالمية في مشهد واحد جعل المشاهدين وكأنهم مشاركون فعليون في العمليات الحربية .
&
انتهت مهمة التحالف الأوّل، لكن علق بركامها أمران: الأوّل إعادة الاعتبار إلى العقل والنفسية الأميركية العسكرية المجروحة منذ حرب فيتنام، والثاني الإبقاء على صدّام حسين رئيساً يكتب "الله أكبر" في قلب العلم العراقي ليصبح "عراقه" الإبرة والخيط اللذين بهما ومنهما شهدنا ونشهد ثوباً إسلامياً يتثاءب ويتمدّد إلى ما يتجاوز الخليج فيغلّ تحته الكثير من الأصوليين الذين توسّعت حدقاتهم أكثر على الأبعاد الدينية والمذهبية لعاصفة الصحراء، وصولاً إلى "داعش" بعلمه الأسود .&
&
صحيح أن أميركا قد أعلنت صعوبة دحر "داعش" في وقتٍ قصير، وتراوحت التصريحات لإنفاذ مهمّة التحالف الجديد بين ثلاث سنوات وثلاثين سنة، وفقاً لنائب وزير الدفاع الأميركي، لكنّ الأصحّ هذا العصيان التركي أو "الدلع الأردوغاني" أو تباين الأهداف الأميركية مع تركيا، الذي قد يعني تراجع حدة الاهتمام الأميركي بتطورات المنطقة العربية والحروب الدائرة في سوريا والعراق، والتحوّل المستجدّ نحو مراكز القضايا الداخلية غير المقنعة، ومنها تسجيل حالات الإصابة بوباء "إيبولا"، والانتخابات النصفية المقبلة . يلعب التاريخ بقرقعة أصابعه أمام تجاذبات المتحالفين بين سوريا والأسد من ناحية، وبين إعلان الولايات المتحدة، وعينها لاتزال في العراق، عن إنشاء قوات عسكرية جوية خاصة بالمعارضة السورية .
&
لنتذكّر أنّ تنظيم "داعش" أنشئ منذ ثماني سنوات عام 2006 وكثّف عملياته في العراق، مستهدفاً مقر الأمن العام في أربيل ، واستمر على الوتيرة الدموية حتى هاجم مسلحوه في يونيو/ حزيران 2014 محافظة نينوى والموصل وهجّرالمسيحيين والإيزيديين ثمّ نحر أميركيين علناً لتعلن الولايات المتحدة ببرودة أن أكثر من 50 دولة ستشارك في تحالف ضد تنظيم "داعش" . يشن الجيش الامريكي منذ 8 أغسطس/ آب 2014 ضربات جوية شمال وغرب العراق وسوريا وترأس الرئيس باراك أوباما في 24 سبتمبر/ أيلول 2014 اجتماعاً لمجلس الأمن الدولي خصص للتهديد الذي يشكّله المتطرفون الإسلاميون الأجانب الذين ينشطون هناك، وصمد الأكراد في "عين العرب" يزكم أنوفهم تاريخ من تحالف الأعداء حيال مشروعهم التاريخي . نحن نعيش زمن التلاعب التركي واستيراد الأزمات المتضافرة وآخرها النشوب المنطقي للحرائق في داخلها .&
&
نحن أمام صورة لتحالفين: الأوّل تحالف الأفعال، والثاني يبدو فيه باراك حسين أوباما يؤذّن في بلاد الشام وتخيّم على الإقليم الفوضى من دون الخلاّقة . هل سننتظر كثيراً؟ الجواب عند أرسطو في كتابه "الكون والفساد": يسقط الفكر في الفوضى عندما تكثر المتغيّرات وهذه معادلة في علوم الرياضيات والفيزياء . الفوضى قاتلة لكن متى تصبح الفوضى خلاّقة؟ عندما تتكسّر هذا الطاولة أمامي مثلاً، أجمع ركامها وأشقعه في الزاوية، لكنّني لا أعرف متى يحين الوقت كي أحوّل الركام إطاراً خشبياً للوحة فنية أو مقعداً صغيراً أو رفاً خشبياً فوق الجدار . ننتظر والعين على تركيا!