عثمان ميرغني
&
ترحيب وسائل إعلام سورية بالغارات الأميركية على مواقع تنظيم داعش، وحديثها عن أن أميركا تحارب في خندق واحد مع القوات السورية، قد يبدو نكتة سمجة أو محرجة في واشنطن، لكنه يعكس في الواقع كيف قلب «داعش» الموازين في الحرب السورية، وكيف بدّل الكثير من التحالفات والمواقف في المنطقة. فنظام الأسد يستفيد بلا شك من الغارات الأميركية على مواقع «داعش»، ويسعده الهدف المعلن للتحالف الدولي في القضاء على التنظيم. صحيح أن الاستراتيجية الدولية لا تهدف لمساعدة النظام السوري بالضرورة، لكنها لا تستطيع تفادي استفادته من نتائجها العسكرية. دمشق تستغل هذا الأمر إعلاميا وسياسيا لتروج أن أميركا باتت معها في «خندق واحد» ضد الإرهاب.
&
الانقلاب الحقيقي سيكون إذا صحت القراءات المستنتجة من التطورات على الأرض، التي تشير إلى أن الإدارة الأميركية بدأت تراجع موقفها، وتتريث في موضوع إطاحة نظام الأسد. فواشنطن تشعر بالقلق من احتمالات الفراغ الذي سيحدث في ظل تفكك المعارضة السورية، وتنامي نفوذ الحركات «الإسلامية» التي تسيطر مع «داعش» على معظم الأراضي الواقعة في قبضة المعارضة. وهناك من بات يرى أن بقاء النظام السوري إلى حين سيكون أخف ضررا من وقوع سوريا في قبضة التنظيمات المتطرفة، ومن رؤية «داعش» يتمدد على الأرض ويستقطب المقاتلين من كل صوب، وبعضهم من الدول الغربية التي لا تخفي قلقها من عودة هؤلاء إلى أراضيها مشبعين بفكر التطرف، وثقافة الذبح والعمليات الانتحارية.
&
لأكثر من عامين كانت الاستراتيجية الغربية في سوريا تقوم على تفكيك النظام وبقاء بنية الدولة، لكن الذي حدث هو تدمير الدولة وبقاء النظام. فسوريا دمرت تماما في الحرب الطويلة التي أُنفقت عليها أموال طائلة، وسُمح خلالها بتدفق المقاتلين الأجانب من كل حدب وصوب بهدف إطاحة نظام الأسد. في ظل هذه الاستراتيجية تمددت وقويت الحركات المسلحة خصوصا التنظيمات «الإسلامية»، وبرز الوحش الداعشي. قبل هذا التحول في مراكز القوة على الأرض كانت هناك دوائر غربية تعمل على تجميع أطراف المعارضة السورية، ودفعها لتبني رؤية سياسية موحدة، وتدريبها على إدارة شؤون المناطق الواقعة تحت سيطرتها بحيث تكتسب خبرات، وفي الوقت ذاته تبني لها قواعد شعبية من خلال تقديم خدمات للسكان كانوا يتلقونها عادة من الدولة. الفكرة قوامها أن تسعى المعارضة، بدعم عسكري ومالي وتقني من الغرب، لإحكام سيطرتها على الأراضي تحت قبضتها، وأن تنشئ فيها مجالس محلية تعمل لإعادة الإعمار وإعادة المهجرين. في الوقت ذاته توفر ميزانيات لهذه المجالس لتقديم الخدمات الصحية والمعيشية العادية، ولإيجاد فرص عمل، بحيث تحل المعارضة تدريجيا محل النظام في كل منطقة تسيطر عليها. بعبارة أخرى، كان الهدف هو «إعادة بنية الدولة» من دون «إعادة النظام»، وفك الارتباط بين «الدولة السورية» ونظام الأسد، بحيث يتلاشى النظام مع كل تقدم لقوات المعارضة التي تصبح جاهزة للحظة سقوطه.
&
هذه الاستراتيجية التي رافقها دخول «متطوعين» غربيين لتقديم خدمات إنسانية وخبرات في مواقع المعارضة، كانت تسير بشكل معقول حتى برز تنظيم داعش، وفرض سيطرته على مواقع عديدة فخلط كل الأوراق. فالتنظيم قاتل معارضيه ودخل في معارك ضد الفصائل الأخرى بما فيها فصائل إسلامية، أكثر مما قاتل ضد قوات النظام. المفارقة أن «داعش» وظف الاستراتيجية الغربية ذاتها، فبدأ في إنشاء مجالس وتقديم خدمات في المناطق الواقعة تحت سيطرته، وعجّل بإعلان دولته «الإسلامية». في المقابل، ظهر الغرب متخبطا في البداية إزاء «داعش» بعد أن انهارت استراتيجيته فجأة، وتغيرت المعادلة على الأرض من ثنائية، أي النظام والمعارضة المعترف بها، إلى ثلاثية، أي النظام والمعارضة و«داعش». اليوم تلاشت المعارضة «المعتدلة» ولم يعد المرء يسمع الكثير عنها بعد أن سيطر «داعش» وأخباره على المشهد. ومما يزعج الغرب أيضا أن «داعش» نجح في استقطاب أعداد من مقاتلي مجموعات المعارضة الأخرى، ومن بينها مجموعات إسلامية كانت تصنف على أنها معتدلة.
&
هناك تساؤلات كثيرة حول الاستراتيجية الغربية في سوريا، وكيفية دحر «داعش» وإعادة بناء تنظيمات معارضة بديلة، وهي أهداف يحتاج تحقيقها إلى وقت وتكتيكات قد تعني بالنسبة للمصالح الغربية تأجيل موضوع إسقاط نظام الأسد. فسوريا في الحسابات الغربية قد تكون أهم من العراق، لأن الفوضى فيها ستؤثر على إسرائيل التي تمتعت لأكثر من أربعين عاما بهدوء شديد على حدودها في هذا الجانب. وما دام الحفاظ على أمن إسرائيل ليس هدفا سريا في الاستراتيجيات الأميركية، فإنه ليس صعبا استنتاج أن واشنطن في مواجهتها لـ«داعش»، وفي قراءتها للمشهد السوري، لا تريد حدوث تطورات أو نتائج غير متوقعة تقلق تل أبيب.
&
«داعش» قلب بالتأكيد الموازين والحسابات، لكن ليس لمصلحة المعارضة.. إنها مفارقة أخرى من مفارقات هذا التنظيم العجيب.