مجاهد عبدالمتعالي

تنوع الخطاب لا يعني الكلمات فقط، بل يعني الخطاب بمعناه المفاهيمي، لنرى الخطاب وتنوعاته عبر مؤسسات المجتمع المدني، عبر المواطنة حقوقاً وواجبات، عبر الأنسنة باللوحات الفنية، عبر الموسيقى، عبر المسرح، عبر التصوير الفوتوجرافي

&


نقطة نظام لعبارة خطيرة يجب أن توضَّح خصوصاً لطلبة العلم الشرعي الناشئة، العبارة يستخدمها الأصوليون وأقصد بالأصوليين (علماء أصول الفقة)، ونصها: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) على خلاف بينهم حول الأخذ بها وردها، وهذه العبارة التي نجدها في كتب أصول الفقة، يستمرؤها بعض أهل الحديث والوعاظ، كي يستروا بها جهلهم بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ وتعدد القراءات، وحجية خبر الآحاد المختلف فيها بين علماء أصول الفقة أيضاً، والمتساهل فيها عند بعض أهل الحديث والوعاظ، وغيرها من ضوابط ضرورية لتحقيق المناط في الحكم الشرعي، مما يجعلنا نرى علماء أصول الفقة الحقيقيين أكثر تواضعاً ورفقاً بالناس واختلافاتهم وتنوع مشاربهم بخلاف المحدثين والوعاظ.


عندما عانى الصحابة رضي الله عنهم في عهد الإمام علي رضي الله عنه من الخوارج كان السبب أن هؤلاء الخوارج يسترسلون في الآيات والتعاطي معها (أخذاً بعموم اللفظ)، بينما الصحابة الكرام لم يتعاطوا مع الآيات بنفس الدلالة العمومية للفظ، لأن كل آية يقرؤونها يرون في ظلالها أسباب النزول، وضرورات المرحلة، وضوابط المصلحة، ولهذا فمن الطبيعي أن يرى عمر رضي الله عنه إسقاط سهم المؤلفة قلوبهم الوارد صريحاً في آية مصارف الزكاة بعد أن أصبح الإسلام قوياً وعزيزاً، دون حرج نراه في أعين من تعبد الله بالألفاظ عن المقاصد، بينما بقي الخوارج يسترسلون في تعاطيهم مع الآيات والأحاديث وفق عموم اللفظ كامتداد لا ينتهي بدلالة عمياء تتغيا إسقاط مصالحها الخاصة، بل وعقدها النفسية أحياناً لتصل إلى تصفية عبدلله ابن الصحابي الجليل خباب بن الأرت، عبر الدلالات المفتوحة للآيات والأحاديث، فيتورعون خوفاً من الله عن أكل حبة بلح سقطت من نخلة ربطوا زوجته إلى جذعها، فتصايحوا بينهم من أجل البلحة (لا يجوز أكلها بغير حلها ومن غير ثمن هذا فساد في الأرض)!؟، ولم يتورعوا عن قتل ابن الصحابي وبقر بطن زوجته الحامل!؟ وفي تاريخ الطبري زيادة لمستزيد.


إذًا فعبارة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) عبارة يجب أن يقتصر بيانها على علماء أصول الفقة، أما المحدثون، وهم كثير، فإنه يفوتهم تحقيق المناط فيها، ويسقطونها إسقاطات عامة وعظية لا فقه فيها، بقدر ما فيها من ضرب أعمى بسطوة الدين على أفئدة العامة من الناس، وعليه فيجب أن يعمل علماء أصول الفقة تحديداً على بيان مخاطر التساهل في (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) على الدين تفسيراً وفقهاً، والأمثلة لا يمكن حصر خطرها في مقال واحد، لكن بإمكاننا أن نبين أنه من خلال هذه العبارة وببعض عموم آيات القرآن الكريم والأحاديث يتم تكفير الدول والحكومات والجماعات والأفراد، واستباحة الدماء بشكل يعيد لنا قيح التاريخ وصديده، متناسين أن حتى دراهم الصحابة ودنانيرهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت دراهم ودنانير بيزنطية وفارسية، فكيف فات النبي وأصحابه أسلمة العملة، وسك الدنانير؟! لم يفتهم، لكن دين النبوة مشغول بالمستضعفين من بلال الحبشي إلى صهيب الرومي، بينما دين الأيديولوجيا مشغول بدراهم الحبشي ودنانير الرومي.


بقيت عبارة أخرى: (المعلوم من الدين بالضرورة) علماء أصول الفقه هم المؤهلون لتحديد هذا المعلوم من الدين بالضرورة وفق معطيات أصول الفقه التي تأسست في فترة كان المجتمع المسلم يسير فيه الحنفي بجوار المالكي والحنبلي مع الشافعي، ويرفض فيها الإمام مالك رأي الخليفة في أطر الناس على موطئه، والسبب ببساطة تأسيس الواقع الاجتماعي على أنه (لا إنكار في مسائل الخلاف)، وكما قال الإمام مالك (قد يطلع الناس على ما لم نطلع عليه)، ولكن المتنطعين سيوجعهم هذا، فكل ما أتى به مذهبهم هو من المعلوم من الدين بالضرورة، بل وأحيانا يعتبرون مجرد رأي لرجل منهم من المعلوم من الدين بالضرورة!؟، وتلك لعمري آفة تنجب لنا خوارج جددا، سواء حملوا السلاح على الناس، أم عجزوا عنه.


بقيت مسألة في علم الاجتماع السياسي، فعندما قُتِل أنور السادات استقبل حسني مبارك فترته بالشد على الحركات الإسلامية والتضييق عليها، وترك الهيئات الدينية الممثلة للحكومة تقوم بدورها في الرد على الجماعات الإسلامية، فكان الخطاب الأزهري وغيره من هيئات يمثل وجهة نظر الحكومة دينياً، وكانت الجماعات الإسلامية ترد على الخطاب الرسمي المعبر عنه من خلال الهيئات الدينية الرسمية.


الذي فات الحكومة المصرية بهذا السيناريو، أنها تنازلت عن خطابها الاجتماعي المدني المتنوع الذي يتحرك بحرية وفق مصالح المجتمع ليكون تربوياً وطنياً اقتصادياً أخلاقياً وقانونياً عبر مؤسساتها المتعددة ووزاراتها المختلفة، لكن الانزلاق نحو إتاحة الفرصة للهيئات الدينية فقط، لتكون صوت الحكومة الأوحد الممثل لشرعيتها، مقابل الحركات الإسلامية، جعل الحرب الفكرية في أرض الإسلاميين وبلغتهم فقط، لتصبح الدولة في المنتصف يتقاذفها الخطاب الديني يمينا ويساراً، ليصبح هو قاموس الدولة الوحيد والمعتمد في منحها شرعية الوجود، فمَن غلب مَن؟! بل إن بعض الهيئات الدينية الرسمية برموزها في مصر انجرت في بعض فتراتها آنذاك لمخرجات تقليدية تحاول فيها إثبات أصالتها واستقلالها الديني عن الحكومة، لتدخل هي أيضاً في منافسة مع الحركات الإسلامية مما زاد غرق الهيئات الدينية كممثل للحكومة في أن تصبح بيدقا بيد المتطرفين بشكل غير مباشر، وما محاكمة نصر حامد أبو زيد ونتائجها إلا مؤشر على خطأ بعض تكتيكات الحكومة آنذاك، وكان الأولى بالحكومة المصرية أن تجعل خطاب الأزهر ضمن خطابات مختلفة ومتنوعة، فلا يهيمن على الفضاء العام الاجتماعي خطاب من نوع واحد، ليصبح هو ممثل الحكومة وداعمها الشرعي الوحيد، بل إن في هيمنته أثرا مباشرا وغير مباشر أضر بالأقليات الدينية في مصر، وأضر أكثر بالتنوع الثقافي لعموم الشريحة الوسطى التي أصبحت أقرب للأيديولوجيا الدينية، ولهذا زاد نفوذ الحركات الإسلامية بدلا من العكس.


تنوع الخطاب يعطي الدولة مرونة في الحركة أثناء التعاطي مع ضرورات التغير في التوجهات العالمية سلباً أو إيجاباً، فحتى الدول العظمى تهيئ شعوبها لأي متغير محتمل، بدلاً من ضرورات التعلم بالصدمة، بينما التعاطي مع الشعب بلغة واحدة تصدر من أدبيات تقليدية تجاوزها الزمن، لا تستطيع عند المحاكمة العقلية أن تجمع كل الطيف الوطني تحت جناحها، وإن فعلت ذلك قسراً فإن هذه الهيمنة تجعل البارادايم الفردي للمواطن ينساق لهذه اللغة الوحيدة، لتهيمن على وجدانه، فكيف إذا كانت لغة المؤسسة الدينية في حكومة ما، هي نفس لغة المعارضة لكن بشكل مقيد بسوط (جلد ظهرك وأخذ مالك)، عندها لا ينقص المعارضة سوى أن تسير بالخطاب الديني الحكومي إلى أقصاه فتفك القيد وتعري السوط فيتحول المواطن إلى معارض أهوج، أو منشق موتور.


تنوع الخطاب لا يعني الكلمات فقط، بل يعني الخطاب بمعناه المفاهيمي، لنرى الخطاب وتنوعاته عبر مؤسسات المجتمع المدني، عبر المواطنة حقوقاً وواجبات، عبر الأنسنة باللوحات الفنية، عبر الموسيقى، عبر المسرح، عبر التصوير الفوتوجرافي... وصولاً إلى الشعراء أصحاب الصولجان الحقيقي للإمساك بوجدان الوطن فبهم نعرف: (تغريبة القوافل والمطر)، وبهم نقول للقمر: (أدر مهجة الصبح)، فيرتلون: (علينا هزيعاً من الليل والوطن المنتظر)، وعلى المطربين أن يغنوا تراتيلهم، فقد كانت: (أجل نحن الحجاز ونحن نجد....) بصوت الفنان محمد عبده، في ظروف التسعينات الصعبة أشد على المغرضين من الشوك، ولنرى حناجر المواعظ المتلونة آنذاك تهيج إذ تقرأ: "سهام في عين (العاصفة)" التي عادت بريح أشد سموما إلى الوطن العربي الآن، وستحولها إرادة الرجال المخلصين في هذا الوطن من عاصفة إلى (فرصة التاريخ)، حباً وولاء لأرضنا وقيادتنا، وخلعاً لرداء أنهكه الزمن بالعثة، وأنهكته أيادينا بالترقيع.
&