زينب غاصب

لا يفتأ العرب يرددون كلمة الديموقراطية، ويحلمون بها واقعاً يتمثل في حكوماتهم وبلدانهم، وتتقاذفهم الشعارات البراقة التي يطلقها المتاجرون بالديموقراطية بحسب أهوائهم وآيديولوجياتهم، ويأخذهم الحنين إلى إرثهم القديم في الخلافة الإسلامية، التي يرون فيها الديموقراطية الحقة مع إن الخلافة الإسلامية في أفضل حالاتها لم تتحقق الديموقراطية فيها بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما يجب.

&

أول قواعد الديموقراطية تقول إن الشعب هو مصدر السلطات.. فهل الشعوب العربية مهيأة لهذه القاعدة التي لا تستند إلى الأهواء بقدر ما تستند إلى الدساتير والانتخابات؟ الشعوب العربية يلعب بها الوجدان والعاطفة وتميل معهما بصرف النظر عن القوانين، سواء أكانت هذه القوانين من صميم الدين الإسلامي أم بوضعية المجتهدين فيه، وإلا كفاهُم الدين الإسلامي بصورته الصحيحة إذا ما أحسن تطبيقه، بناءً على قاعدة العدل، والحرية، والمساواة بين الناس، بصرف النظر عن أديانهم وأجناسهم وعرقياتهم وطوائفهم ومذاهبهم.

&

كل الثورات العربية السابقة والأخيرة تعزف على هذا الوتر، وكلها باءت بالفشل في ظل الأصوات المرتفعة الطامعة في السلطة، فلم يجدوا لها سوى الدخول من عباءة الدين الذي لعبوا بمفاهيمه، ومبادئه، تبعاً لتصوراتهم العقلية والفكرية، المشوهة في العدالة الدينية والاجتماعية والإنسانية، التي يتدخل فيها منطق القبيلة والحزب والموروث الثقافي لكل مذهب والتعصب القبلي والتقلب الآيديولوجي للجماعات والأفراد، والجهل بمساحة الفكر وفلسفته، في العلوم والفنون والثقافة، والتقوقع خلف الموروث من دون تمحيص أو تحرر منه، أو بحث فيما يناسب الواقع، ويتماشى مع ثورة التكنولوجيا والصناعات وسرعة الاتصالات والعبودية، والقداسة لمشايخ الدين الذين وجدوا ضالتهم في هذا الجهل المجتمعي الذي أيضاً لم يخرج منه المستنيرون بالعلم لتفترسهم أفكار الجهلاء، متناغمين مع عواطفهم القاصرة عن التفريق بين الدين عقيدةً، وبين النظم الحياتية كالعلمانية والليبرالية، وغيرها من النظم التي ترفع من الشأن السياسي في تنظيم حياة الناس بمختلف جوانبها، ومن هنا برزت مفاهيم التكفير لكل مخالف، ومفاهيم الحرب على كل المذاهب التي لا تتماشى مع مذاهب التطرف، والغلو، القابضة على عقول من يتصيدون المواقف بدواعي الإصلاح، والتمكين للإسلام، وهم في الواقع إنما يريدون أن يعودوا بالبشرية إلى العبودية والكهنوتية، التي حاربها الإسلام شكلاً وموضوعاً. لا ديموقراطية للعرب في ظل هذه المعطيات والواقع المهزوز بالاختلافات الدينية والمذهبية والفكرية والثقافية، إذا لم تصبّ كلها في صالح الأوطان ووحدتها ونهضتها، والتوافق في ما بينها على أساس الحقوق والواجبات، المتساوية لجميع الأطراف، وعدم الانصياع للأفكار الفردية التي يطلقها المتاجرون بالدين. كل يرى أنه الحقيقة المطلقة، ويتفانى في إثارة النعرات، ويجتهد في تبرير الأهواء من منطلق الأفراد الذين انجرُّوا خلفه بسذاجة وجهل، ودرعمة غير مسبوقة في استلاب العقل، والتعتيم على استنهاضه، والاستفاقة من بؤسه الفكري، وركضه خلف أهواء أوجدت الخراب والدمار، بدعوى الجهاد، والتحرر من الظلم، فطغى الظلم على جميع الشعوب التي أطاحت في ثوراتها بالحكومات الديكتاتورية لتقع في كماشة الحروب والفوضى والقتل والفساد، الذي كانت تصارعه، بفساد أشد نهباً لإنسانيتها وحقوقها وتشريدها.

&

ولعلّ الغرب وجد ضالته في لعبة الديموقراطية الحلم العربي، فدخل على الخط بحجة تحقيقها في البلدان العربية، فحفر مستنقعاً جديداً للدماء، والتلاعب باقتصاد الدول العربية المستقرة للقضاء على وجودها، وهو خلف كل الثورات، ومساندتها لإيجاد الفوضى الخلاقة كما اعترفوا هم بأنفسهم، وسيظل العرب غارقين في لعبة الديموقراطية التي لن تتحقق لهم، وكما تنبأ ابن خلدون من منظور مقدمته «بأن العرب لا يحكمهم إلا من كان سائساً وازعاً بالقهر، وإلا لم تستقم سياسته».

&


&