سارة الرشيدان

ما سمي: "أدبا إسلاميا"، وتعاوره مجموعة من محتكري أسهم "الأسلمة"، ليس إلا فقاعة كبيرة، بداخلها المقلدون الذين لا ينتمون إلى مدرسة واضحة المعالم تناسب زمننا، ولا يحملون هما فنيا، وإن حملوا، فقد اكتفوا بالحمل وعجزوا عن ترجمته إلى إبداع

&


وَقَالَتْ لِيَ الأَرْضُ - لَمَّا سَأَلْتُ:
"أَيَـا أُمُّ هَلْ تَكْرَهِينَ البَشَر؟"
"أُبَارِكُ في النَّاسِ أَهْلَ الطُّمُوحِ
وَمَنْ يَسْتَلِـذُّ رُكُوبَ الخَطَر
هُوَ الكَوْنُ حَيٌّ، يُحِـبُّ الحَيَاةَ
وَيَحْتَقِرُ الْمَيْتَ مَهْمَا كَـبُر
فَلا الأُفْقُ يَحْضُنُ مَيْتَ الطُّيُورِ
وَلا النَّحْلُ يَلْثِمُ مَيْتَ الزَّهَـر
إِذَا طَمَحَتْ لِلْحَيَاةِ النُّفُوسُ
فَلا بُدَّ أَنْ يَسْتَجِيبَ الْقَدَرْ
أبو القاسم الشابي
عندما بدأ التعليم في البلاد العربية ـ مع مطلع ما يسمى بعصر النهضة الحديث ـ كانت بداية التعليم والترجمة والتأليف في العلوم غير العربية سببا لحدوث مشكلة معروفة؛ وهي بأي لغة يتم تدريس العلوم والمعارف الغربية؟ وبلغت الحيرة والصراع أن شارك شعراء كحافظ إبراهيم في قصيدته المعروفة عن اللغة العربية التي كانت ولا تزال من أجمل القصائد، ومنها بيته الذي شبهها بالبحر والكلمات بالدر في الأصداف، وما أجمل المشبه والمشبه به!
وبعد صراع مع من رأى أن في العودة للعربية الفصحى عبئاً، على التعليم وفضل بقاء المعارف وتدريسها بلغتها، ومع من قال إن العامية أيسر من العودة للفصحى، انتصرت الفصحى، ويبدو هذا الكلام وهذه الدعاوى اليوم ضد الفصحى، كأنها لم تكن أو كأنها مجرد زوبعة في فنجان!


ما الذي صنع الفرق لصالح اللغة العربية وجعلها تنتصر على غيرها مع أن غيرها كان أيسر وأسهل منالا منها؟!
من استقراء الماضي، نلحظ أن هذا تم بجهود حقيقية فتحت نافذة التنوير التي أضاءت عقولهم مع التمسك بالهوية العربية والإسلامية، فكتب شوقي قصائده الإسلامية، وفي الشام كان أبو ريشة يشدو، ومن أكثر من مكان ومن انتماء واحد صرخ علي أحمد باكثير بكتابه: "وا إسلاماه"!


ما سبق مجرد نماذج للاحتفاء بأدب عربي وإسلامي ما يزال مميزا، على الرغم من مرور الزمن؛ لأنه تناول قضايانا الطارئة والمزمنة؛ فقد كانت فلسطين قضية عربية لا نسأل عن هوية من كتب لها، كما كان الاستعمار جرحا غائرا في جسد كل عربي بذل حتى الروح له.


مرت السنوات وتآلفنا مع الجراح، وكنا نتساقط كسفا مع كل جزء جديد يسقط من أرض فلسطين، لتتسع أحلام الصهاينة وتضيق أحلامنا على ألا نخسر بيتا أو أرضا، وربما أن نتجاوز سورا شائكا، ولا نتهاوى أمام حاجز جديد بناه اليهود، أو غصن أخضر كسروه، وحمامة بيضاء تنوء بحمل أحلام السلام!


لن أتحدث عن السياسة ولا الساسة، ولكن عن أحلام جميع البسطاء، التي كان يحملها الشعراء قنابل مدوية تشفي الغليل، وتبقي على الدقيق قبل الجليل من الكرامة والعزة وتباهي غطرفة أمهات الشهداء أمام غطرسة اليهود القاتلة.
كان الشعر قوتنا الأهم، وطعامنا الألذ، الذي نلجأ إليه عندما نستند على قارعة طريق الواقع المؤلم. بقي الشعر أقوى من دوي القنابل، وصواريخ الجو، وألغام الأرض التي بترت بعضنا أو كلنا!
كنا نحار مع نزار متسائلين: من أين نبدأ بالقصيدة؟ وإذا به يبدأ ولا ينتهي إلى اليوم من نداء تونس الخضراء، فلم تسقط عن جبينه وردته ولا كتابه.


كانت ريشة أبي ريشة سلاحا فتاكا صنع من عطر دماء الأحرار وتراب أرضهم؛ لكن قوارير العطر تبددت اليوم وبقي الدم على الثرى مذهولا!


مات الشعراء العظام، وتركونا بلا شعر، فشعراء اليوم لزموا الصمت أمام كل أوجاعنا إلا النادر، وأغربهم من تسموا بـ"الأدباء الإسلاميين"، وتصنفوا بـ"إسلاميتهم" وكأنهم ينسبون الإسلام وقضاياه لحروفهم فقط. فأين ذهبوا اليوم؟
ليس السؤال عن أسمائهم، فبعضهم في زمن ما كانوا ملء السمع والبصر، لكننا لم نعد نسمع لهم حتى همسا اليوم!
والسؤال عن إبداع يحرك القلوب، ويملأ الأرواح، لا صفحات الصحف دون حياة.


ما يحدث اليوم في دائرة بلاد المسلمين الشاسعة، يستدعي أجمل قصائد الرثاء على الأقل للمالك والمدن، لكن المدن تموت بصمت مطبق، وتبتلع أشلاء أبنائها، ولا يمتزج دمهم بعطر ترابها، كما كان يحدث، ليصرخ السؤال بلا فم: لماذا؟


هل ما كان من ادعاء "الإسلامية" هو استغلال لاسم الإسلام للتسويق لذوات هشة لا تملك أكثر من أبيات من النظم لا تسمن ولا تغني الذائقة؟ أم أن عواطفهم تبلدت أمام ما يحدث لأنها ببساطة كانت عواطف موجهة لغرض ما؟
الكثير من الحيرة أمام سطوة هذا الصمت، وهو ليس مسكوكا من الذهب بالتأكيد، وفي المقابل، نجد من المضحك أن من يسمى بخليفة "داعش" يُمدح بقصائد لا ترقى للجيد من الشعر الشعبي، فضلا عن أن تتسامى إلى مرتبة الفصيح، فهي لا تقدم إلا صورة أن الطرف الآخر يحيط به جماعة من العوام أو محدودي الثقافة الذين لا تسعفهم فطرتهم الشعرية بأكثر من العامي من القول لضعف ثقافي واضح.


أعود لما حل بنا، وأكاد أن أجزم بأن ما سمي: "أدبا إسلاميا"، وتعاوره مجموعة من محتكري أسهم "الأسلمة" ليس إلا فقاعة كبيرة، بداخلها مجموعة من الناظمين، ومن يقتاتون على أفكار عصور النهضة، أو مجرد مقلدين لا ينتمون إلى مدرسة واضحة المعالم تناسب زمننا، ولا يحملون هما فنيا، وإن كانوا يفعلون، فقد اكتفوا بالحمل وعجزوا عن ترجمته إلى إبداع.
&