غسان العزي

عن عمر ناهز الحادي والتسعين عاماً أراد أشهر وزير خارجية في العالم المعاصر أن "يوصي" بهندسة جديدة للنظام العالمي، عبر كتاب أصدره في الشهر المنصرم بعنوان "نظام عالمي" . في رأيه انهار النظام الموروث من معاهدة وستفاليا العام 1648 الذي كان تعددياً قبل أن يضحى ثنائي القطبية . ويحمل الأوروبيين والإسلاميين المسؤولية عن هذا الانهيار .


أوروبا مسؤولة لأنها تخلت عمداً عن الدولة، وهي الوحدة الأساسية في النظام الدولي، لمصلحة بناء اتحاد أوروبي لم يصبح دولة فبات عاجزاً عن مواجهة مشكلاته الداخلية المتفاقمة، والانهيارات التي تحدث أمامه في منطقة مجاورة هي الشرق الأوسط تنهار فيها الدول أمام ضربات المنظمات الإرهابية واللاعبين غير الدوليين . والإسلاميون، منذ الشيخين حسن البنا ثم سيد قطب، هاجموا النظام الدولي واعتبروه كافراً ودعوا لنظامهم الخاص الطهراني الذي لا مكان فيه للتعددية وللرأي الآخر . وما أنتجه أحفادهم والمتأثرون بهم هي هذه الفوضى وتفكك الدول بسب الصراعات المذهبية والدينية والعرقية وغيرها . إيران أيضاً مسؤولة لأنها تبحث عن مد نفوذها في الشرق الأوسط وتدعم جماعات غير دولتية موالية لها . كذلك دول أخرى ظنت لفترة طويلة أنها يمكن أن تحمي نفسها من الإرهاب عبر دعم المتشددين . وقد تبين خطأ هذا التصور لأن المتشددين باتوا يهددونها علناً .


وفي توزيعه للمسؤوليات عن تفتت المنطقة وتداعي النظام العالمي لا يتذكر هنري كيسنجر "إسرائيل" التي تضغط الجماعات الموالية لها في واشنطن من أجل سياسات أمريكية فقدت مصداقيتها في العالمين العربي والإسلامي بسبب انحيازها السافر للدولة الصهيونية .


أكثر من ذلك، فهو يعتبر أن تفتيت المنطقة، وإن كان يتسبب بكوارث إنسانية مريعة، إلا أنه قد ينتج مفاعيل إيجابية على المدى الطويل . فسوريا والعراق دولتان مصطنعتان على يد القوتين الكولونياليتين السابقتين، فرنسا وبريطانيا، لأسباب خاصة بمصالحهما الاستراتيجية . وبالتالي فانفجار هذين البلدين بين الجماعات العرقية والمذهبية والدينية وغيرها قد يدفع هذه الجماعات، إذا ما انتصرت، إلى الشعور بأنها استحصلت على حقوقها ونجحت في توكيد نفسها ضمن حدود إقليمية، ما يجعل إدماجها في النظام الدولي ممكناً في ما بعد .


كذلك يحمّل كيسنجر المنظمات الدولية المسؤولية بسبب عجزها عن بناء تصور للنظام العالمي الاقتصادي يؤلف ما بين أنانيات الدول والمصلحة الدولية المشتركة . فمن أسباب أزمة النظام العالمي أن الاقتصاد العالمي بات معولماً لكن السياسات الخارجية للدول لا تزال تقوم على أساس "دولة الشعب" ضمن حدود تدافع عنها رغم زوال الحدود بفعل العولمة والتطور التكنولوجي . الأزمات المالية التي عصفت بأمريكا اللاتينية في ثمانينات القرن المنصرم ثم بآسيا العام 1997 ثم بروسيا العام 1998 ثم بالولايات المتحدة في العام 2001 ثم 2008 قبل أن تضرب أوروبا في العام 2010 سببها هذا التناقض بين العولمة وأنانيات الدول وسعيها وراء مصالحها . والمنظمات الإقليمية والدولية فشلت في رأب هذا الصدع كونها في المحصلة منظمات دول أو أن دولاً محددة تسيطر عليها . أما جشع الشركات الكبرى والتي كانت سبباً في الأزمة المالية الأمريكية ثم العالمية فلا ينتقدها كسنجر بكلمة واحدة، ربما لأنه منذ عقود يملك شركة استشارات "كيسنجر أند اسوشييتز" تقدم النصائح لهذه الشركات في مقابل أجور خيالية .


وإزاء الأزمة الخطرة التي تعصف بالنظام العالمي يدعو كيسنجر إلى بناء نظام بديل بالشراكة ما بين الولايات المتحدة والدول العظمى الفاعلة الأخرى . لكنه هنا يشير إلى الصين بالتحديد والتي ينقسم حولها الأمريكيون ما بين متوجس من صعودها الذي يشكل تهديداً استراتيجياً، وأولئك المؤمنين بفعالية التعاون والشراكة معها . أما روسيا فلا يبدو أن كيسنجر يحجز لها مقعداً في قمرة القيادة الدولية، بل يقسمها ما بين الشرق الصيني والغرب الأمريكي . فخط الانقسام هذا بات يقع في جبال الأوراس وسط روسيا وليس على نهر أودر بين ألمانيا وأوروبا الشرقية حيث كان جدار برلين .


الولايات المتحدة لا تزال دولة مركزية ومولجة وضع تصور للنظام العالمي وتسويقه بالتنسيق مع الصين ومساعدة من يشاء من الدول . أمريكا هي أمة "حلالة" للمشكلات في العالم، من هنا ضرورتها له ومركزيتها فيه . وهو إذ يكيل المدائح لبلاده التي تحمل القيم الديمقراطية والإنسانية لا يذكر لنا ما هي المشكلات التي نجحت في حلها . أما المشكلات التي تسببت بها مباشرة فلا يتكلم عنها الكتاب البتة . ففي مديحه للرئيس بوش الابن نسي أن الغزو الأمريكي للعراق كان الشرارة التي أشعلت المنطقة التي لا تزال تعاني الهزات الارتدادية للزلزال الأمريكي . وماذا عن الفشل الأفغاني، فضلاً عن الصراع الفلسطيني - "الإسرائيلي" والذي تعجز واشنطن ليس عن حله فحسب، بل عن مجرد وضعه على سكة الحل .


لقد ترك كيسنجر "الواقعي" و"البراغماتي" بصمات شديدة السلبية على الخريطة الجيوسياسية العربية والدولية خلال سنواته السبع في وزارة الخارجية الأمريكية في عهدي نيكسون ثم فورد بعد أن كان مستشاراً للأمن القومي في عهد نيكسون . وعن مذكراته فقط كتب ثلاثة مجلدات ضخمة انضمت إلى عشرات الكتب التي كتبها، والتي بدأها بأطروحة الدكتوراه عن المستشار النمساوي الشهير مترنيخ التي ناقشها في جامعة هارفارد العام 1975 قبل أن يضحى أستاذاً فيها . كتابه الأخير يؤكد مجدداً هذه الواقعية، ولكن بمعناها السلبي وليس كما كانت عليه واقعية مترنيخ الإنسانية التوفيقية .