المثقف الإماراتى الطليعى& 1989-1946

&

&

كريم مروَّة

&

غانم غباش هو شخصية سياسية وثقافية وفكرية إماراتية من النوع الذى يستعصى على النسيان. تدلّ على ذلك بوضوح سيرته والآثار التى خلَّفها نشاطه السياسى والثقافى فى الفترة الزمنية القصيرة من حياته.


ولد غانم فى مدينة دبى فى عام 1946 وغادر الحياة فى عام 1989. وتكونت شخصيته فى الفترة التى كانت قد بدأت تتكوّن فى دولة الإمارات، بإسهام أساسى منه، حركة ثقافية وفكرية وسياسية جديدة مثيرة للاهتمام. لكن المرض الذى رافقه فى الفترة الأخيرة من حياته لم يدعه يكمل مسيرته بالزخم الذى كان يميز حركته ونشاطه وأحلامه الكبري.

كانت الأربعينيات من القرن الماضى حبلى بالجديد الذى كان يتهيأ للولادة فى الإمارات، التى تشكلت منها فيما بعد دولة الإمارات العربية المتحدة ومجمل دول الخليج. وهى المرحلة التى كان النفط قد بدأ يصبح، بالنسبة للجزيرة العربية كلها وللعالم العربى برمته، مصدراً للغنى فى الثروات، ومصدراً للتقدم، من حيث المبدأ، ومصدراً للهموم التى رافقت كلاً من ذينك الغنى والتقدم. وهى هموم كانت تؤرق جيل تلك الحقبة الذى ينتمى إليه غانم غباش، قبل أن يتحول الأرق ذاته إلى مزيج من المشاعر المتناقضة التى كانت تولدها الوقائع والأحداث فى اتجاهاتها وفى تأثيراتها المختلفة.

لم يكن الفتى غانم، عندما فتح عينيه على الحياة من حوله، ليعرف بالضبط إلى أين كانت تقود بلاده تلك التحولات التى كانت تجرى فى الصحراء الممتدة بين بحر هنا وبحر هناك وآفاق بعيدة لا يصل إليها النظر بالعين المجردة، ولا حتى بالبصيرة النافذة. لكن غانم سرعان ما دخل تلك العوالم الغامضة الآتية إلى بلاده من الأمكنة البعيدة ومن أزمنتها الرأسمالية الزاحفة إلى الطريق لامتلاك الكوكب وما ومن عليه. دخل إلى غانم تلك العوالم عندما كانت إرهاصاتها تشير إلى ولادتها، حتى وهو فى سن الدراسة الثانوية. إذ انكبَّ على القراءة وصار فى الإدمان عليها نهماً. وكان، وهو يقرأ فى كتب التاريخ وفى سائر مكونات المعرفة، يراقب التحولات التى كانت تجرى من حوله وفى الأمكنة البعيدة. وكان ذلك بالذات هو الذى جعله منذ وقت مبكر مسكوناً بفكرة الإسهام فى صناعة الغد الآتي، من دون أن تكون قد تولدت عنده الوسائل والأدوات التى تمكنه من نقل الحلم الذى تملكه إلى واقع ملموس. وحلمه الحقيقى كان منذ البدايات هو أن يرى بلده دولة الإمارات العربية تدخل فى عالم التطور والتقدم من أبوابه المشرعة لا من الأبواب الخلفية الضيقة، استناداً إلى الثروة التى جاءتها من أعماق رمالها السمراء الواسعة الامتداد مرفقة ومدعمة بعولمة رأسمالية داهمة لم تلبث أن بدأت تعبَّر عن ذاتها أمام عينيه فى الثلث الأخير من القرن الماضي.

فى ذلك الوقت بالذات، حين كانت تجرى تحولات سياسية واقتصادية فى منطقة الخليج كلها، كان غانم ينتقل إلى مرحلة النضج ببلوغه العشرين من العمر. ومعروف أن مرحلة الستينيات كانت مرحلة التكوُّن الأولى للإمارات فى صيغة دول أو مشاريع دول. ففى عام 1968 بادر حاكم إمارة أبو ظبى فى ذلك الحين الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان إلى الدعوة لوحدة إمارات الخليج التسع: أبو ظبى ودبى والشارقة وعجمان وأم القيوين ورأس الخيمة والفجيرة والبحرين وقطر. واجتمع حكّام تلك الإمارات فى دبي، وأصدروا «اتفاق دبي» الذى تحول إلى محور للنقاش والجدل والصراع حول تشكيل «اتحاد الإمارات العربية». لكن الإتفاق الذى جاء سريعاً حول فكرة الإتحاد لم يحقق ولادة الإتحاد إلاَّ فى وقت لاحق بين سبع إمارات، بعد خروج البحرين وقطر من الإتفاق الأول. ثم كانت ولادة دولة الإمارات العربية المتحدة فى عام 1971، بدور أساسى للشيخ زايد، وبنظرة ثاقبة منه إلى المستقبل، مشرعة فيها الأبواب على آفاق كبيرة تعبّر التطورات الراهنة عنها بوضوح ساطع فى دولة الإمارات العربية.

كان غانم يرافق التطورات التى أدت إلى تشكيل الإتحاد. وكان وعيه يتطور مع تلك التطورات. وكانت همومه واهتماماته تكبر. وكانت أحلامه تتركَّز فى اتجاه قيام دولة حديثة فى الإمارات تستند إلى مخزون الثروة الوطنية، من جهة، وإلى حاجة سكان البلاد للدخول فى العصر وتحولاته، من جهة ثانية. وإذ كانت أحلامه ومطامحه تتوسع كان يدخل فى الحياة العامة ويشارك فى النشاطات العامة المتعددة، التى حفلت بها دولة الإمارات فى تلك الفترة. وقد أهلته شخصيته التى تحتوى على مجموعة من الصفات الإنسانية، فى مقدمتها أخلاقياته، لأن يتولى فى أول سبعينيات القرن الماضى منصب رئيس اتحاد كرة القدم فى دولة الإمارات. وكان أول شخص يتولى ذلك المنصب فى البلاد. وكانت الأندية الرياضية فى تلك الفترة تزاول أنشطة ثقافية إلى جانب أنشطتها الرياضية. وكان غانم بذلك يدخل معترك الحياة منذ شبابه الأول. وقد تنقَّل فى ميادين مختلفة من العمل فى القطاع الخاص وفى مؤسسات الدولة. وكان أهم نشاط قام به فى مؤسسات الدولة هو ما قدّمه له موقعه كوكيل مساعد لشئون العمل والعمال فى وزارة العمل والشئون الاجتماعية. ويعود له الفضل فى إخراج أول قانون للعمل والعمال فى دولة الإتحاد. وهكذا كان يتحول غانم فى ميدان النشاط والعمل والتجربة إلى رجل صاحب قضية وصاحب رؤى سياسية واجتماعية وثقافية. وكانت أفكاره، التى سرعان ما بدأ يبثها فى كتابات وأحاديث ولقاءات، تعبِّر عن طموح جيل بكامله فى الانتقال بالبلاد إلى معارج الحرية وإلى التقدم الإنسانى فى مجالاته كافة.

إلاَّ أنَّ النقلة النوعية الكبرى فى حياة غانم تمثلت فى إسهامه الأساسى فى إصدار مجلة «الأزمنة العربية» بين عام 1979 وعام 1981. وتحوَّل على صفحات المجلة إلى كاتب ومفكِّر وصاحب مشروع ثقافى وسياسي. وصارت الكلمة مجال نشاطه وأداته فى المعارك السياسية والاجتماعية والثقافية التى خاضها مع عدد غير قليل من زملائه وأصدقائه الذين كانوا يشاركونه الرؤى ذاتها والهموم والهواجس والأفكار والمطامح. وكانت كتاباته تتميز بالشجاعة فى طرح الأفكار والمواقف، مستنداً فى ذلك إلى أنه كان يعبِّر عن مصالح شعبه ووطنه فى الحرية والتقدم والعدالة بمعانيها وميادينها المتعددة. وكان يستخدم السخرية أسلوباً ولغة فى التعبير عن آرائه ومواقفه. وكانت معظم مقالاته تنشر بتوقيع « بلوطي». وكانت تلقى شعبية كبيرة وسط القرّاء.

ومن موقعه كمثقف ساهم فى تأسيس أول اتحاد للكتّاب والأدباء فى دولة الإمارات، وفى تأسيس النادى الثقافى الاجتماعى ومن بعده النادى الأهلى الذى كان عضواً فى لجنته العليا.

كان عقد الثمانينات، من بداياته حتى عامه الأخير، عام الوداع بالنسبة إلى غانم. وكان ذلك الميدان الأكثر رحابة والأكثر عطاءً فى حياته. وهو العقد الذى أصبح اسمه فيه يتجاوز دولة الإمارات ومنطقة الخليج إلى العالم العربي. إذ صار يعرف فى الأوساط الخليجية والعربية كمفكِّر عربى ديمقراطى متميِّز. كان يقتحم صعاب الحياة مجاهداً، معانداً ومغالباً المرض الذى كان قد أصابه بالشلل النصفى وأقعده من دون أن يتمكَّن من تقييد حركته. وظلَّ، وهو فى تلك الحالة المرضية، يبدع فى الفكر والسياسة والثقافة حتى آخر لحظة من حياته. لكنه حين غادر الحياة لم يكن قد استكمل كل عناصر المشروع المتعدد الذى كان محور حياته وفكره وكل نشاطه. لكنه مع ذلك تمكَّن من أن يسهم فى تأسيس حركة فكرية وأدبية وثقافية وسياسية فى دولة الإمارات العربية المتحدة سرعان ما أصبحت من النماذج الرائعة المتميزة فى هذه المنطقة من الوطن العربي. وستظل الحركة الفكرية والسياسية التى تنتعش اليوم فى بلاده تذكر بتقدير كبير دوره هذا، ولا تنساه.

لكن «الأزمنة العربية» تظل، بما قدمته فى حقول الفكر والسياسة والثقافة، المعلَم الأساس الذى يشير إلى دور غانم الريادي، وإلى الإسهام الكبير الذى قدمه فى خلق هذه الحركة الناشطة لتجديد المجتمع فى بلاده. ولكم بذل من جهد، ولكم غالب من صعوبات، ولكم عانى من متاعب، وهو فى غمرة كفاحه ذاك لإصدار «الأزمنة العربية»، ولإعادة إصدارها، ولتجديدها ولتطويرها. والذين يعرفونه عن كثب يعرفون جيداً، وبعمق وبتقدير كل تلك الصعوبات، وكل تلك المعاناة، وكل العزم الذى امتلكه فى متابعة المعركة، وكل الثقة التى لم تتزعزع عنده بالمستقبل.

بعد بضعة أعوام من غيابه أصدر أصدقاؤه كتاباً ضمَّ بعض كتاباته التى كان ينشرها فى «الأزمنة العربية». وهو كتاب على أهميته لا يشكِّل إلاَّ جزءاً مما تميَّز به فكره. لكنه يعكس بصدق هواجسه وهمومه واهتماماته وأهدافه. ذلك أن غانم كان قد وضع أمامه مهمة لا ينهض بها فرد، ولا حتى جماعة. فهى كانت مهمة مجتمع بأسره، بكلِّ فئاته وقواه. جوهر تلك المهمة كان الإسهام مع القوى الطليعية العربية، مفكِّرين ومنتجين وجماهير، فى النهوض بالمجتمع العربى بعامة، والمجتمع فى دولة الإمارات العربية والمجتمع فى كل منطقة الخليج العربي، بخاصة، وتحرير هذا المجتمع هنا وهناك وهنالك وتحرير الإنسان فيه من تقاليد مضى عليها الزمن، ووضع شعب الإمارات المتحدة على طريق التقدم الإنسانى فى مجالاته كافة. وكان غانم فى تلك القضية لا يحصر همه فى بلد عربى دون آخر، ولا فى منطقة من الوطن العربى دون أخري. إذ هو كان مفكِّراً ديمقراطياً عربياً يلتزم بقضايا أمته العربية جميعها، دون تمييز. وهكذا فقد كانت قضية فلسطين إحدى أولى همومه واهتماماته. وكذلك كانت القضية اللبنانية. ولن يستطيع الوطنيون والديمقراطيون اللبنانيون أن ينسوا الدور الذى قام به هو شخصياً مع العديد من أصدقائه وزملائه فى تأسيس حركة واسعة للتضامن مع المقاومة الوطنية اللبنانية، منذ البدايات. وكانت لجنة الدعم للمقاومة فى الإمارات أول لجان الدعم التى تشكلت خارج لبنان. وكانت أكثر تلك اللجان نشاطاً وأكثرها تنوعاً فى النشاط وفى شتى مجالات الدعم الملموس.

غير أنَّ جانباً من شخصية غانم غباش يحتاج اليوم إلى إبرازه، إنصافاً للرجل بعد رحيله. فقد كان سريع التأثر بالمتغيرات التى كان يشهدها العصر، عميق التفاعل معها. ولم يكن شكلياً فى تأثره وانفعاله بتلك التحولات الكبري. ولم يكن تقليدياً. ولم يكن نصياً. بل هو كان دائم البحث، عميقاً فى الابتكار وفى الإبداع. لكنه كان واقعياً. والواقعية لا تتعارض مع الحلم. إلاَّ أنها لا تجعل الحلم يتحكَّم بالواقع. ولذلك فحين كانت تهز أحداث العصر الناس هنا وهناك، وتبعث فى النفوس القلق على مستقبل النضال العربى وعلى حركة التحرر والتقدم فى بلداننا، كان غانم من بين الذين رأوا فى تلك المتغيرات كل جوانبها، وليس جانباً واحداً منها. إذ هو لم يكن يركن إلى حتمية معيَّنة بذاتها تقود إلى التغيير. بل كان يعتبر أنَّ التغيير فى المجتمع، بخلاف الطبيعة، إنما يعتمد بالدرجة الأولى على الفعل الإنسانى الذى يؤسس له الارتقاء فى الوعي. وهذا الوعى الضرورى بحركة التقدم إنما يحتاج لكى يتكوَّن ويرتقى إلى الحرية والديمقراطية. ففى ظلهما فقط، وباتساع وتعمق دائرة انتشارهما وتأثيرهما، يزدهر العلم وتزدهر المعارف، ويزدهر الإنتاج والإبداع، فكراً وثقافة وخيرات مادية وتطوراً اقتصادياً واجتماعياً. وبالاستناد إلى ترسخهما فى الوعى والممارسة تزدهر الحضارة.

فى قراءتى لكتاب غانم غباش المشار إليه تأكَّد لى كم كان الرجل عميق الإدراك للقضايا الأساسية التى تواجه وطنه دولة الإمارات المتحدة، القضايا المتصلة ببناء الدولة الحديثة والإنسان الجديد الخارج لتوه من البداوة إلى الحضارة.

يقول فى نص ساخر تحت عنوان «المواطن عالة ومثله الوالد» محدداً هموم الوطن والمواطن: «على أرض الإمارات يعيش نوعان من الهموم. النوع الأول هو هموم الاتحاد بمؤسساته وصيغه التنظيمية وهيكله الدستورى والقانوني. النوع الثانى هو هموم المواطن الإنسان وأزماته الثقافية والاجتماعية والمعيشية. وبلا شك فإنَّ هناك علاقة عضوية ما بين هذين النوعين من الهموم. وأى تسكين لأحد منهما يلمس تأثيره الآخر. وإذا كان الوضع السياسى غير قادر الآن على فرز قرارات حاسمة تعالج النوع الأول من الهموم إلاَّ أنَّ إجراءات عاجلة أصبحت الآن ضرورية لتطبيب الهموم الأخري... هموم المواطن. وليس عذراً التعلل بأنَّ عدم المقدرة على الحسم فى الأولى يبرر عدم فعل أى شيء فى الثانية. وهموم المواطن وأزماته تعيش على أرض الواقع. ويوماً بعد يوم تزداد وضوحاً ورسوخاً، وتكتسب أبعاداً تتصاعد خطورتها بمقدار ما يتأخر علاجها. فهى ليست قضايا فكرية وذهنية فى جمهورية أفلاطون الفاضلة نستطيع أن نستحضرها وفقاً لحالة مزاجية معيَّنة. والاختلاف حولها ليس هو خلاف فى وجهات النظر فحسب. فهذه القضايا مطروحة أمام كل مواطن، فى ساعات ليله ونهاره. تواجهه سواء كان فى العمل أو المنزل، فى البادية أو المدينة. والخلاف حولها، إذا وجد، ليس هو خلافاً فى وجهات النظر يحتمل فيه الصح أو الخطأ، من دون أن تكون له نتائج كبيرة. إنه خلاف حول هل هناك دولة ينتمى المواطن إليها ويشارك فى تقرير مصيره من خلالها أو لا تكون. وأى نوع هذا الانتماء إذا لم يكن يضمن لهذا المواطن عدالة اجتماعية تساويه بمثله فى كل المناطق، وتكافؤ فى الفرص يجعله يأمن على مستقبل أطفاله؟».

ويتساءل فى نص آخر من الكتاب عن مكان النظام فى الإمارات من الأنظمة المعروفة قائلاً: «أين تقع دولة الإمارات من الأنظمة السياسية المطروحة على الساحة العالمية؟». ويجيب على الفور بأنه: «لا بد من الشمولية فى الحديث عن هذا الموضوع. لأنَّ طرح السؤال يفيدنا بعض الشيء فى تحديد موقع دولة الإمارات من الأنظمة المطروحة عالمياً. إذ أنَّ لكل بلد نظاما معيَّنا يسير وفقه. والنظام يعنى شمولية الدولة. وهذا يعيدنا للسؤال عن ماهية الدولة. فالدولة بالتأكيد تتكون من الشعب، ومن الحدود الجغرافية، ومن نظام سياسى وإداري، وصولاً إلى اكتمال الهرم. ولا مجال للإبداع فى خلق مفهوم جديد للدولة. فأمامنا معطيات حضارية وتاريخية من واقع العالم. لكن هذه المعطيات التاريخية قد لا يصح أن نأخذها بحذافيرها، أى أن نأخذ نظاماً ونطبِّقه بحذافيره على واقعنا، حتى لا يقال إننا استوردنا نظاماً جاهزاً. إلاَّ أنَّ كل واقع مهما كانت سماته خاصة لا بد وأن يلتقى مع العالم ككل، أى يلتقى بالسمات الحضارية الرئيسية، كنمط الاقتصاد مثلاً والتطلعات التنموية وشكل العلاقات الاجتماعية وعلاقة الشعب بالسلطة التى يختارها. هذه المحاور الرئيسية لا بد لها وأن تتواجد لدى كل الشعوب. لأننا لا نتكلم عن خصائص منفردة لكل تجمُّع سكاني. فهذه المسألة هى مسألة ثقافية بحتة. ويجب أن تناقش على الصعيد الثقافى وليس على صعيد النظام السياسى والاقتصادي، حيث لا بد من مراعاة شيء معيَّن فى هذه الفوارق، ولا بد أن تعرض بعض الصور للأنظمة المطروحة عالمياً عبر التاريخ وصولاً إلى عصرنا هذا».

ثم يستطرد فى مقال آخر ليطرح قضية الثروة ودورها فى التنمية فيقول: « ومع تدفق الثروة وما تبعها من توجُّه للتنمية العمرانية والأنشطة الصناعية وتوسُّع مجال الخدمات، كان لزاماً قيام المؤسسات الحكومية التى كان إنشاؤها مؤشِّراً باتجاه تكوين عناصر الدولة الحديثة. وهى عناصر بقيت ناقصة بسبب غياب عنصر أساسى لا تكتمل الدولة الحديثة إلاَّ به. وهو المؤسسة التى تصل ما بين المواطن والحاكم فى ظل الوضع الجديد، وتشكِّل بديلاً عن تلك العلاقة المباشرة التى كانت تجمعهما معاً فى المجتمع البسيط السابق. وأعنى بذلك المؤسسة التشريعية القائمة على أساس الانتخاب المباشر من قبل المواطنين لممثليهم. وفى المجتمع العصرى المعقَّد صار مستحيلاً الاستمرار فى النمط القديم من العلاقة. فمهما بلغت طاقة الحاكم وجلده فهو إنسان بما تعنيه الكلمة من محدودية فى الإدراك والضعف والعجز فى القدرات، لا يستطيع معها أن يضع حلولاً لمشكلة اقتصادية معقَّدة تعم البلاد، وأنَّ يبت فى قضية هجر بين زوجين، وأن يقرر علاقة مع المعسكر الشرقي، وأن يأمر بشراء علف للإبل، كل ذلك فى وقت واحد. لكنه يستطيع أن يكون «المايسترو»، وأن تعزف مؤسسات الدولة على حركة عصاه، وأن يكون المجلس التشريعى المنتخب «نوتة» يسمع من خلالها نغمات الشعب وهمهماته. وبدون تلك المؤسسة فـ»السيمفونية» تصبح نشازاً، ومؤذية للسمع».

لقد أتيح لى أن أتعرف إلى غانم غباش منذ مطالع الثمانينات من القرن الماضى عندما بدأت زياراتى إلى ذلك البلد الناهض من غياهب قرون البداوة إلى حضارة جديدة مليئة بالالتباسات. كنت ألتقى غانم فى دبى وفى بيروت. وكنت أتابع فى نقاشاتى معه ومع عدد من أصدقائه وزملائه الكثر تحولاته وتحولاتهم العميقة فى الفكر وفى السياسة وفى كل ما يتصل بمجريات الأمور على صعيد المنطقة وعلى الصعيد العالمي. وكنا نزداد اقتراباً فى قراءاتنا لما كان يجرى من أحداث ومتغيرات على الصعيد العالمي، لا سيما فى ما كان يجرى داخل الإتحاد السوفيتى فى زمن البرسترويكا والتباساتها عشية الانهيار المدوّى للنظام الاشتراكى فى ذلك البلد الذى جرت فيه أول تجربة اشتراكية فى العالم. وقد زار غانم الإتحاد السوفيتى مرتين قبل عام من وفاته. الأولى كانت بمبادرة منه والثانية بمبادرة منّى ومن أصدقائى فى بيروت وموسكو. وهى الزيارة التى أتاحت له اطلاعاً أوسع وأعمق على ما كان يجرى فى ذلك البلد فى أخصب وأصعب فترة فى تاريخه قبل انهيار دولته الإشتراكية. وحين نشرت بحثاً عن «مستقبل الحركة الثورية العربية فى ضوء المتغيرات الدولية الجديدة» فى مجلة «الأزمنة العربية» بعد عامين من غياب غانم وقبل أشهر من انهيار الإتحاد السوفياتي، كنت أستعيد نقاشاتى معه حول هذا الموضوع بالذات. وأذكر جيداً كيف أنه كان يفكر فى كيفية توسيع حلقة النقاش وحلقة العمل المشترك بين مثقفى بلدان الخليج من أجل خلق حركة جديدة للتغيير تسهم فى نقل بلدان المنطقة كلها إلى العصر الذى كانت المتغيرات والتحولات فيه تشير إلى أن من يتخلَّف عن اللحاق بها سيصبح خارج التاريخ. وكانت قد بدأت تلك الحلقات من النقاش تتوسَّع وتشمل مثقفين مستنيرين من دولة الإمارات ودولة الكويت ودولة البحرين والمملكة العربية السعودية. إلاَّ أنَّ أحداث المنطقة وبالأخص منها حرب الخليج الثانية التى تمثَّلت بغزو العراق للكويت قد عطّلت مسار تلك الحركة بعد غياب غانم. وانفرطت أشكال التنسيق قبل أن تتاح لها إمكانية الولادة. وانصرف كل فريق إلى الاهتمام بشئونه الخاصة، شئون بلده والشئون الخاصة بالمجموعات السياسية وغير السياسية التى ينتمى إليها. وكان ذلك الواقع هو السائد فى كل البلدان العربية من دون استثناء.

إلاَّ أننى لا أريد أن أختم هذا الاستذكار لمثقف ديمقراطى عريق من دون الإشارة إلى الدور الذى لعبه فى تطوير اتحاد الكتّاب فى دولة الإمارات، الإتحاد الذى من خلاله ولدت مؤسسة سلطان العويس الثقافية وولدت الجائزة التى ارتبطت باسم ذلك الشاعر والتاجر الإماراتى الشجاع. وكانت قد بدأت الأفكار المرتبطة بالمؤسسة وبالجائزة فى العام الذى ودَّع فيه غانم غباش الحياة، مسكوناً بأمل لم تتح له فرصة التمتع ببعض مقدماته الواعدة.
&