مأمون فندي

بعد مقتل أكثر من ثلاثين جنديا في حادث غدر في شمال سيناء، ما زالت الدولة المصرية، وربما معنا كثير من أصدقائنا العرب، غير قادرة على تحديد العدو وطبيعته وطريقة مواجهته وفاتورة الحرب. بدايةً أي حرب هي أولا تحديد العدو. من العدو؟ هو السؤال الأهم في حرب مصر على حدودها الشرقية في سيناء. الحدود الكبرى لمصر في سيناء، شمال مدينة رفح حتى أقصى الجنوب الشرقي في طابا، هي حدود مع دولة إسرائيل، حسب اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، ولمصر حدود بسيطة جدا مع قطاع غزة أو مع فلسطين، بالمقارنة مع الحدود مع إسرائيل. الحدود مع إسرائيل هادئة منذ توقيع اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979 باستثناء حادث الجندي سليمان خاطر ضابط الأمن المركزي الشهير، الذي قتل مجموعة جنود إسرائيليين تسللوا عبر الحدود إلى مصر عام 1985. وحوادث أخرى لا تذكر، لكن مشكلة مصر الحدودية الأخطر والتي أدت إلى قتل العشرات من الجنود المصريين خلال الأربعة أعوام الفائتة، هي مع الإخوة الفلسطينيين في غزة، ولكننا كمصريين شربنا مع لبن الحليب أن الفلسطينيين أشقاؤنا، وأن إسرائيل هي عدونا المشترك؟ فهل ما زال الأمر كذلك أم أن ثمة شيئا ما قد تغير بعد كل هذه الكمائن التي يقتل فيها الجنود المصريون كل يوم في شمال سيناء؟ لا أعتقد أن الدولة المصرية قادرة ولا أي إنسان مصري قادر على أن يعلن صراحة لنفسه أو لاثنين من حوله من هو العدو، الذي يقتل الجنود المصريين في سيناء، رغم أننا جميعا نعرفه.
العدو في هذه المواجهة في سيناء للأسف ليس إسرائيل، ولكن العدو وبكل صراحة هو مافيا التهريب التي تتسلل من قطاع غزة عبر رفح المصرية، ومعسكر كندا، بعد أن قضى الجيش المصري على جزء كبير من عائلات المافيا التي كانت تدير الأنفاق، وتجلب لها ملايين الدولارات شهريا، لا نستطيع أن نقول إن الأخ الشقيق كما تعلمنا في مدارسنا، وليس إسرائيل، هو العدو هذه المرة، رغم وضوحه وضوح الشمس.


مصر في ورطة ثقافية داخلية الآن في مواجهة عدو في سيناء لا تريد أن تعترف أنه عدو، وتستبدله كل يوم بالعدو المقبول شعبيا وهو إسرائيل، مع أنه لا يوجد دليل واحد على تورط إسرائيل في أي أحداث عنف في سيناء. عدم القدرة على الاعتراف بعدو واضح فقط لأنه من سياقنا العرقي والثقافي يضرب بعمق في معنى الدولة المصرية وتماسكها الداخلي. هل هي دولة وطنية تحافظ على حدودها من الجوار أم أنها دولة مترهلة لا حدود لها بمعنى حرمة الحدود الدولية وقدسيتها؟


وهذا هو جوهر هذا المقال.


بعد ظهور الحركات العروبية والإسلامية في مصر، بدأت فكرة ضبابية الدولة، فبدت مصر كدولة سابحة في الفضاء العرقي/ الثقافي للعروبة، وسابحة أيضا في الفضاء الإسلامي، فبدا هذا الثوب أو الرداء الثقافي واسعا على الدولة. أو أن الدولة لم تصبح بالقدسية المعطاة للفضاءين؛ العروبي أيام القومية أو الإسلامي بعد ظهور حركات الإسلام السياسي. سؤال مصر الأول الآن في مواجهتها مع الإرهاب في سيناء هو امتلاك الشجاعة كدولة بالتمسك بقدسية حدودها وتحديد هوية العدو الخارجي أيا كانت درجة القرب والبعد منه ثقافيا أو عرقيا.


طبعا لبعض المصريين وبعض العرب طريقة في الهروب من هذا السؤال، على غرار أن الكاتب يريد استبدال العدو الإسرائيلي بالفلسطينيين الذين يعانون الأمرين تحت الاحتلال، وتلك هي الأجندة الصهيونية. هذه الأسطوانة التي لم يمل بعض العرب من سماعها ما زال هناك بين ظهرانينا من يفضل سماعها، بدلا من إعمال العقل في مسألة العلاقات الدولية والنظام الدولي، الذي يمنح العالم كله النظام الذي نعيش فيه الآن.


ما زالت في ذهنية بعض العرب اليوم أننا ديار قبائل ومضارب لأقوام كمضارب بني عبس، الدولة الحديثة بحدودها المقدسة ما زالت غير مقبولة عند كثير من العرب.


ما العيب في هذا السياق إذن؟ أن تعتدي كتائب القسام وجماعة بيت المقدس إلى آخر اليافطات التي ما هي في النهاية إلا أسماء حركية لحماس، ما العيب أن يقتلوا الجنود مرة بحجة فتح المعبر، ومرة لمعاقبة الجيش المصري «لانقلابه» على جماعة الإخوان ورئيسها محمد مرسي. إلى هنا ولا اعتراض كبيرا.


الاعتراض الأكبر هو أن في الدولة المصرية - من خلال مدارسها ومساجدها وإعلامها - من يجعل قدسية الدولة المصرية وحدودها تأتي درجة ثانية بعد قضية فلسطين.


أي أن عندنا في الصعيد أناسا يعيشون في فقر ومرض يعود إلى حياة القرن السادس عشر، ومع ذلك لا يهتز للمصريين طرف لمساعدتهم ويفزعون من أجل غزة.


أنا هنا لا أضع الأمور في معادلة صفرية؛ أي إما الصعيد وإما غزة، ولكن لمن لا يدري؛ بعد القضاء على مرض الجذام مثلا في مجاهل أفريقيا، ما زال في مركز إسنا في محافظة الأقصر قرى كاملة ينتشر فيها الجذام، حسب آخر بعثة لطب القصر العيني إلى إسنا. وهكذا يدعو المصريون إلى مؤتمر إعمار غزة، وهناك في الصعيد قرى لم تعمر منذ عهد محمد علي باشا، وأن السكك الحديدية إلى الصعيد لم يدق فيها مسمار واحد منذ أن ترك الإنجليز مصر. وأبناء الصعيد هم من يستشهدون في سيناء الآن.


تحديد هوية الدولة وحدودها وحلفائها وأعدائها هو أول تعريفات الدولة الحديثة في عالمنا المعاصر.


فهل تستطيع مصر تحديد أعدائها شرقا وغربا وجنوبا؟ أم أننا سنردد كليشيهات العرب مثل «في فمي ماء» إلى آخر هذا الكلام الذي لا يعدو أكثر من أنه كلام.


تحديات الرئيس السيسي وإدارته تتلخص في عرض كل نتائج التحقيقات في قتل الجنود المصريين بكل شفافية، في كل ربوع مصر من سيناء إلى الواحات. في كشف هذه التحقيقات يكمن معنى الدولة. عدا ذلك تصبح الدولة المصرية مجرد واحدة من مضارب القبائل التي تغري خليفة مثل أبو بكر البغدادي بأن يعلن ولايته عليها في يوم من الأيام.


قدسية حدود الدولة هي أساس النظام الدولي بعد معاهدة وستفاليا في منتصف القرن السابع عشر، وعدم حفاظ الدولة على قدسية حدودها يعني نقصا في معنى الدولة.


حالة الضبابية التي أنتجتها الثقافة المصرية منذ عهد عبد الناصر حتى الآن، لا بد وأن تنتهي ولا بد لمصر أن تكون فقط مصر، نعم مصر قائدة للمجموعة العربية، وثقافتها تؤثر في الجوار، ولكن أهم من ذلك كله في البداية المحافظة على حدود مصر وقدسية هذه الحدود وتعريفات واضحة للصديق والعدو.


ما يدرس في المدارس المصرية لا يصب في قدسية حدود الدولة، بل يصب في مزيد من الضبابية، مما يجعل بعض المصريين يشمتون في قتل جنودهم. عندما يشمت جزء من الشعب في قتل جنوده، فإن معنى الدولة في خطر شديد ولا بد من مراجعة جادة للنفس.


مقتل أكثر من ثلاثين جنديا مصريا في يوم واحد هو يوم تنكيس أعلام، ويوم الحقيقة الذي يجب أن تنظر فيه الدولة إلى نفسها في المرآة - كل الدولة - لتسأل السؤال الأول: من هو العدو وماذا فعلنا من أخطاء أوصلتنا إلى ما نحن فيه الآن؟