رشيد خشانة

شكلت الانتخابات البرلمانية الأخيرة في تونس نصراً واضحاً على الجماعات المصنفة محلياً وإقليمياً في خانة الحركات الإرهابية، وفي مقدمها جماعة «أنصار الشريعة» التي هددت بإفشال الانتخابات وكانت تُعد العدة لإفسادها. وأتت نسبة المشاركة التي تجاوزت ستين في المئة (كانت أكثر من ثمانين في المئة خلال انتخابات المجلس التأسيسي في 2011) لتؤكد أن التونسيين باتوا يثقون بأن صندوق الاقتراع هو الفيصل في اختيار من يحكمهم ورفضهم أي عنف أو انقلاب أياً كانت مسوغاته. كما أثبتت الانتخابات أن الخيار الحداثي أصيل وراسخ في البيئة التونسية، بحكم الانفتاح التاريخي للمجتمع على الغرب والذي ساعدت عليه الجغرافيا (وجود الأقليات منذ القديم) والنظام التعليمي بعد الاستقلال.

&

واللافت أن المؤسستين الأمنية والعسكرية لعبتا دوراً حاسماً في إنجاح المسارين الانتخابيين اللذين عرفتهما تونس بعد الثورة، وعبأت المؤسستان ثمانين ألف عنصر في أكبر عملية انتشار أبصرها البلد، ما يُفسر إحباط العمليات الإرهابية التي كانت مُعدة للتشويش على الاقتراع. ووصلت التعبئة إلى درجة أن عدد عناصر الطاقم الأمني كان أكثر من عدد الناخبين في بعض مراكز الاقتراع النائية.

&

أما على الصعيد السياسي ففي مقدم النتائج المتوقعة بعد حلول أكبر حزب أصولي في تونس في الرتبة الثانية خلال الانتخابات الأخيرة توقف تمدد الأصولية في المنطقة، إذ كانت التجربة الانتقالية التونسية التي قادتها حركة «النهضة» مع حليفيها «التكتل» و»المؤتمر» تُقدم بوصفها أنموذجاً لقدرة الأحزاب الإسلامية المعتدلة في العالم العربي على المساهمة في بناء الديموقراطية. غير أن أداء الحكومتين اللتين شكلهما حزب «النهضة» كان على درجة من قلة الخبرة والغطرسة ما جعل التونسيين يتنفسون الصعداء عندما أجبرت المعارضة الحكومة الثانية على الاستقالة في مطلع العام الجاري. والثابت أن الأداء ذاك هو الذي يُفسر إعراض المقترعين عن منح أصواتهم لـ «النهضة». وأياً كان مآل الجدل الدستوري الدائر حالياً في شأن أحقية الرئيس الانتقالي الحالي تكليف الحزب الأول الفائز في الانتخابات تشكيل الحكومة أم انتظار انتخاب رئيس جديد مباشرة من الشعب في أواخر العام، فالتكليف سيذهب حكماً إلى غريم الأصوليين أي الحزب الليبرالي «نداء تونس».

&

يتزامن تراجع الأصوليين في تونس مع هزيمة عسكرية للجماعات المتشددة في ليبيا، المرتبطة بحركة الإخوان المسلمين وذراعها السياسية حزب «العدالة والبناء»، والتي فقدت غالبية مواقعها في بنغازي. وسيضع المشهد التونسي الجديد الأصوليين الليبيين في كماشة بين تونس ومصر، إضافة إلى إحكام غلق الحدود الجزائرية مع ليبيا، ما يترك أمامهم مجالاً واحداً للتمدد في اتجاه النيجر ومالي. ويمكن القول إن استتباعات الانتخابات التونسية، معطوفة على ما جرى في مصر ستجعل النظرية الأميركية، التي تبنتها أطراف اقليمية مختلفة سبق أن بشرت طويلاً بإرساء منهج جديد في الحكم يقوم على تحالف الأصوليين والليبراليين، رؤية لا تستند إلى أي أساس لتجسيدها في الواقع.

&

واستطراداً يمكن القول أيضاً إن الانتخابات التونسية أعادت التوازن إلى المشهد السياسي بعدما اعتمد حزب «النهضة» في الانتخابات السابقة خطة تقسيم التونسيين إلى مؤمنين وغير مؤمنين، فصدق كثيرون تلك الرؤية ما حشد الأصوات للحزب ووضعه في مركز متقدم على كل الأحزاب الأخرى وسوّغ له أن يتصرف بوصفه الماسك الوحيد بالسلك الكهربائي. والثابت أن تجربة حكم «الترويكا» (2011 - 2013) هي التي أغرقت الحزبين اللذين انتقتهما ليكونا حليفيها في الحكم فاْمحى وجودهما تقريباً من المشهد الذي فرزته الانتخابات البرلمانية.
&