غازي دحمان

يدّعي أنصار نظرية المؤامرة أن الولايات المتحدة صممت الحالة الفوضوية التي تسود المنطقة عن وعي وإدراك، ويذهبون الى حد أنها تعرف مسبقاً كل التفاصيل التي جرت وتلك اللاحقة التي ستشكل المشهد المستقبلي للمنطقة، وبذلك تصبح الفوضى الحالية أحد منتجات مختبرات «السي اي اي» والبنتاغون، ثم جرى نثرها بعناية ورعايتها وتثميرها لتصل الى نضوجها الحالي!

&

في الواقع، المؤامرة ليست حالة غريبة عن السياسة الدولية، وطالما كانت جزءاً من أدوات الصراع التي يتم اللجوء إليها لتحقيق المكاسب والأهداف السياسية والجيواستراتيجية، ولم يكن هناك أي إعتبار للأخلاق التي بقيت تعبّر عن حالة مثالية غير ممكنة في عالم الصراع الدولي، لكن حتى المؤامرة لا تمارسها الدول إلا بوصفها إستثماراً تستفيد منه، فهي بالنهاية عمل عقلاني يبتغي الطرف الذي يمارسه تحقيق فوائد معينة لا يمكن تحقيقها بالطرق والوسائل العادية، لذا يلجأ إلى وسائل وأدوات اخرى لإنجاز أهدافه.

&

أيضاً، الفوضى هي إستراتيجية، مثلها مثل أي استراتيجية أخرى تخضع لمقتضياتها، وخاصة لجهة الموارد، لما يتطلبه ذلك من صناعة سياقات مناسبة وحوامل لمشروعها، وخيارات وبدائل مقبولة، أي بإختصار حالة من الإستغراق والإنهماك التي تتطلبها عملية نجاح هذه الإستراتيجية، وإلا فإن الجهة التي تصنعها تضع نفسها في مقامرة غير محمودة النتائج لما قد ينعكس من نتائج على سمعتها ومكانتها الدولية.

&

ثمة سؤالان من شأن الإجابة عليهما المساعدة على تظهير زوايا نظر جديدة تساعد على معالجة هذه القضية: هل لم تكن ثمة وسائل أخرى أمام واشنطن لتحقيق أهدافها في المنطقة غير أسلوب المؤامرة؟ ثم أين ملامح الإستراتيجية الفوضوية التي إعتمدتها واشنطن في المنطقة، وما هي مواردها وأدواتها؟

&

الغريب أن أميركا كانت على وشك مغادرة المنطقة يوم إشتغلت الفوضى فيها، وكانت كل جهودها تنصرف لبناء ركائز إستراتيجية في وجهة أخرى وتجاه قضايا لا تشبه قضايا المنطقة وهمومها، كانت منصرفة في الأصل الى إعادة بلورة عناصر قوتها وبخاصة العنصر الإقتصادي الذي ناله العطب في السنوات الأخيرة جراء انخراط واشنطن في صراعات المنطقة، وكانت قد توصلت لقناعة بأن إمكان بقائها قوة أساسية على الصعيد العالمي مرهونة بتعديل قواعد الإشتباك وتبديل طبيعة الوظائف التي إستغرقتها منذ أكثر من نصف قرن وحوّلتها الى شرطي العالم. بإختصار كانت واشنطن توجه دفة سفنها لترسو في المحيط الهادي وهي مشغوفة بالفرص الإقتصادية التي ستحققها جراء ذلك.

&

كل الدلائل كانت تشير إلى أن واشنطن في طور الإنفكاك عن هذه المنطقة، ولا شك أنها لم تصل إلى تلك المرحلة إلا بعد قناعة تامة بإنخفاض قيمتها الإستراتيجية، أقله بالنسبة اليها، وإنعدام القيم المضافة التي التي يمكن تحقيقها لمكانة وهيبة الولايات المتحدة جراء إستمرار إقامتها في المنطقة، وهذا مبني على تقديرات أجرتها واشنطن عبر منظومة صناعة القرار المعقدة فيها، وتالياً لم يكن الأمر وجهة نظر ولم يكن توجهاً لتيار داخل الإدارة الاميركية يعارضه تيار آخر.

&

لكن الأهم من ذلك هو السؤال عن نتائج هذه الإستراتيجية، إن كان قد وضعها عقل بشري. ثمة من يقول ان الفوضى وإن بدت في ظاهرها كذلك إلا انها عملية تنطوي على نظام كامل منضبط كلياً، وليس هناك شيء عشوائي أبداً، فهل كان العقل السياسي الاميركي، الذي صمّم هذه الفوضى واثقاً بقدرته السيطرة على نتائجها وتداعياتها، وما هي الحصيلة الافضل التي ستستخلصها واشنطن من هذه العملية المعقدة ولم يكن متاحاً تحصيلها بوسائل أخرى؟ ما الذي يمكن الإستفادة منه من دول محطمة وبلدان فاشلة، وبخاصة ان الخراب حصل في دول كانت تقودها نظم سياسية تتوسل العلاقة مع الغرب ومستعدة لإعطائه ما يريد شرط تأهيله لها (سورية وليبيا واليمن).

&

لا يعفي ذلك أميركا من الاخطاء القاتلة التي إرتكبتها في المنطقة سواء عبر التكتيكات البائسة التي جرى إعتمادها في العراق، او من خلال إنتهازيتها المفضوحة في التعامل مع المسألة السورية ورغبتها في تحول المنطقة إلى بؤرة إستنزاف لخصومها الإقليميين والدوليبن، لكن ذاك شيء وصناعة المؤامرة شيء آخر.

&

لقد تجاوز الزمن نظيرة المؤامرة كإطار تحليلي موضوعي، وإذ يتضح مدى التهافت الكامن فيها لدفاعها عن أنظمة بعيدة كل البعد عن القيم التي تدّعيها، وبخاصة في الوطنية والسيادة والمقاومة، فإن الجهة المتآمرة هنا (الغرب والرجعية) لم تعد في وارد إتباع هذا النمط من السياسات نظراً لتكاليفه التي لم يعد أحد يحتملها، ونظراً لأن تلك الانظمة كانت في مرحلة التآكل والإنهيار هي والمجتمعات التي تحكمها، وأن الغرب الذي كان ينسحب من المنطقة كان قد أجرى تشخيصاً كاملاً لحالتها ولا بد انه إكتشف مدى الأعطاب الكامنة في جسدها، وأنها في مرحلة موت سريري، لا ينفع معها إلا الموت الرحيم.
&