سليمان تقي الدين

تستحق تجربة تونس في التغيير السياسي وقفة تحليلية خاصة لأنها تميّزت باستبعاد العنف إلى أقصى حد ممكن على جبهتي النظام والمعارضة، وأنجزت عملية ديمقراطية بين أحزاب التزمت مبدأ المشاركة السياسية ولم تنزع إلى الإقصاء والانفراد بالسلطة .

منذ اللحظة الأولى بدا أن النظام القديم غير مهيّأ لإدارة عملية قمعية واسعة لا تشاركه في اختيارها مؤسسات الدولة ولاسيّما الأمنية . كما بدت المعارضة منتظمة في حراك سياسي سلمي مرجعيته حركة نقابية متماسكة تؤطر فئات شعبية واسعة (اتحاد الشغل) وأحزاب لها تجربة سياسية نضالية عريقة وملتزمة المسار الديمقراطي، بما في ذلك حركة الإسلام السياسي المتمثلة ب"النهضة" وزعيمها راشد الغنوشي .

طبعاً نلحظ هنا مجتمعاً مدنياً قوياً وإرثاً ثقافياً ليبرالياً وانسجاماً في المكون الاجتماعي والهوية . كل ذلك ساعد على استبعاد عناصر التناقض داخل المروحة الواسعة لقوى المعارضة . تحتاج الديمقراطية إلى هذه المعطيات وإلى حدٍ أدنى من الحياد لدى أجهزة الدولة ومؤسساتها في الصراع .

أوحت الثورة التونسية للثورة المصرية بداية، ثم هي استفادت من تجربة "الإخوان" الفاشلة في محاولة السيطرة على الدولة والمجتمع والانفراد بالسلطة ما كاد يحدث صداماً أهلياً واسعاً . اختارت "حركة النهضة" في تونس إنجاح المشروع الديمقراطي أولاً لا احتكار السلطة .

من الواضح أن تونس لم تتعرض لنفس الضغوط والمداخلات الخارجية التي تعرضت لها مصر بحكم موقع ودور هذه الأخيرة الإقليمي المؤثر في المعادلات السياسية . لكن أخطاء قيادة "الإخوان" هي التي جلبت هذا التعقيد لأنهم كذلك كانوا يريدون أن يقودوا عملية سياسية واسعة على المستوى العربي وقد شبكوا تحالفات لمشروع يتعدى الكيان المصري . ولم يكن ممكناً للدولة المصرية بمؤسساتها العريقة أن تترك لجماعة حزبية ذات توجه عصبوي ضيق أن تقرر مصيرها خلافاً لرأي مصري شعبي واسع .

على الضفة الأخرى من المشهد العربي كانت التجربة اليمنية قبل حركة الحوثيين المتصاعدة الآن كذلك تؤكد مجانبة العنف الأهلي رغم التعددية الثقافية والقبلية وانتشار السلاح على المستوى الشعبي الواسع . فاليمن لا يحتمل أصلاً إزالة هياكل ومظاهر السلطة المركزية بمؤسساتها وجيشها لأنه مجتمع أكثر هشاشة لناحية اندماجه الاجتماعي وتطوره المدني . من هنا تأتي خطورة "حركة الحوثيين" ولو توسلت وسائل سياسية وسلمية بدأت تنزلق في اتجاه نزاع أهلي عريض . أما التجربة السورية فقد كانت رغم إمكاناتها الموضوعية على إحداث تغيير سياسي من نوع مختلف، إلاّ أنها لم تعط من النظام فرصة اختبار هذا النوع من التحول السياسي ولو غير الجذري . فلقد تهيأت سوريا بسرعة خاصة بعد ما جرى في ليبيا من تدخل خارجي مكشوف لأن تعطي الأولوية لمعركة ذات طابع جيوسياسي وتستدرج كل المداخلات الإقليمية التي بدلّت صورة الحراك وأهدافه . ولا ننسى أن سوريا كانت الدولة الأكثر محافظة على نموذجها السياسي المغلق الذي لم يستجب لأي من مطالب توسيع هوامش الحريات العامة والسياسية .

كل هذه الملاحظات تصب في خانة رفض فكرة الأزمة النهائية بين المسار الديمقراطي والمجتمعات العربية والإسلامية . فلم يثبت فشل بعض الثورات العربية في تحقيق هذا التحول السياسي المأمول أن هناك مشكلة بين العرب والديمقراطية ولا بين ما حققه الإسلام من إنجازات في التكيّف مع النظم السياسية الحديثة . فالنموذج التونسي والنموذج المصري وما قد ينفتح من آفاق عربية أخرى يدل على أن المشكلة تتصل بطبيعة الأنظمة القائمة وأنماط سلوكها ونوع المصالح والقوى التي تمثلها وفي علاقاتها بالمنظومة الإقليمية والدولية وموقعها فيها . الديمقراطية الموعودة الآن في تونس إحدى العلامات الفارقة على احتمالات التأسيس لمناخ عربي آخر رغم أنها ليست نهاية المطاف، في شكل ومضمون التغيير المطلوب عربياً .