يوسف الكويليت

كلّ نظام يُزال بقوة الشعب أو الجيش أو الاحتلال تبقى جذوره قائمة ومتجذرة في أوساط الشعب وإدارات الدولة السابقة ومؤسساتها، وتم اقتلاعها بالقوة، كما حدث في نظم الانقلابات العربية التي أعطت تلك المراكز إما للعسكر لضمان ولائهم، أو للمحاسيب ممن يدورون في حلقة النظام الجديد، لكن كما حكى التاريخ الحديث فإن تلك التغييرات خلفت سلبيات هائلة حين استشرى الفساد من خلال طاقات إدارية احتلت مواقع الدولة، وهي غير مؤهلة، أو استبدال الاقتصاد الحر بالمؤمم والموجه، وقد رأينا كيف تلاحقت أزمات الكساد وتصاعدت الديون، وتوقفت عناصر التنمية باعتبار تلك المؤسسات القديمة ودوائرها، هي إرث الدولة الرجعية والفاسدة..

بعض هذه الاتهامات صحيحة، ولكن تعميمها ليس صحيحاً، بل وخطير على بنية الدولة الوريثة، ولعل نواتج الربيع العربي التي دفعت إما بجماعات دينية احترفت إدارة عمل حزبي ليس لديه مشروع دولة أو فكر بها، كما هي حالة الإخوان المسلمين في مصر، أو الأحزاب والجماعات الشيعية في العراق، أو الانقسامات التي شرعت لها نظاماً خاصاً تدعمه مليشيات كما هي حالة ليبيا واليمن، فإن بقايا نظام الرؤساء المطاح بهم لا تزال قائمة، لأنه لا يجوز تخوين جهاز قائم من سنوات طويلة بجريرة مجموعات من الفاسدين، وهذا ما أظهرته انتخابات تونس الجديدة حيث احتل القائمة الأولى من كانوا يعملون في حكومتي بورقيبة وابن علي، ويصدق الأمر على مصر حيث إن الجيش الذي يعد عمود الأمن ولد في عصور عدة زعماء، ولكنه في اللحظات الحرجة انحاز للشعب ووقف معه، وهو بمنطق من يفسرون العهود بتعميم الفساد لا يستطيعون اتهام هذه القوات على دورها المهم في إنقاذ الدولة من خطط رسمتها دول خارجية لتفكيك مصر لتسقط بعدها، أحجار (الدومينو) العربية..

ليس من المنطق محو مؤسسات دولة، واستبدالها بتركيبة جديدة، لأن ذلك يعني إلغاء الخبرة ومسار الدولة كلها، لكن أن ينال التطهير الفريق الفاعل في تأسيس الفساد واستشرائه، فذلك الذي يعطي للنظام الجديد المناعة التامة من عودة تلك (الفلول) إلى الواجهة، وخاصة في مرحلة دقيقة وحساسة تفرض أن تكون القدرات الوطنية، بصرف النظر عن عملها في أي عهد، إذا كانت مارست عملها ضمن النظام وحقوقه، فإنه من غير المعقول أو المقبول إزاحتها، والدليل أن الأنظمة السابقة نفسها أبعدت مؤهلين وخبرات وأصحاب مشاريع كبيرة تبنى على مبدأ النزاهة، استعاد البعض منهم دوره في الدولة الجديدة..

خيار التغيير، سواء جاء تعسفياً من خلال الثكنة العسكرية أو الحزب، فهو كان مرحلة لم يكن فيها الرأي العام العربي على مستوى جيد في نضجه، والمرحلة الجديدة، وإن جاءت عواصفها شعبية تلقائية، فهي إرث سنوات طويلة تلاحقت فيها حكومات فرّطت بحقوق المواطن ليجد نفسه في مواجهة الواقع بإحداث تغييرات جوهرية ليس فقط في الأشخاص والمناصب وإنما بالمؤسسات النظيفة، غير أن الاتجاهات التي حرفت تلك الأهداف عبر مسارها لتسود الفوضى أدت إلى تمزيق خرائط الوطن الواحد، لكن المعنى لا يتصل أو يتعلق بالبلدان الغارقة في أزماتها، وإنما بتلك التي تحاول استعادة دورها في وحدة وطنية، واحدة، تفرض عليها الاستعانة بكل ما يساهم في الاستقرار والتنمية ممن يطلق عليهم أي تسمية، ولكنهم جزء من نسيج اجتماعي قادر على إدارة الحركة بأسلوب الأمانة الوطنية والسير بها إلى آفاق جديدة وسلوك جديد.