عمار علي حسن

تناولت في مقال الأسبوع الماضي العاملين الأساسيين اللذين يؤثران في التزامات مصر حيال العالم العربي خلال الوقت الراهن، وهما: توقعات ما بعد الثورات والانتفاضات والاضطراب، الذي ساد بعض الدول إثر الهزة السياسية الكبرى.

وهذا التواشج بين الضغوط الداخلية النابعة من ثورة التطلعات والخارجية المنحدرة من الظروف الصعبة، التي تمر بها بلدان عربية عدة، جعل النخبة السياسية والفكرية في مصر، تفكر في سبيل مختلف لإخراج البلاد من شقي الرحى، يتوزع على مسارين في الغالب الأعم هما:

1 ـ ضرورة الانكفاء نسبياً على الذات، أو على الأقل إعطاء الأوضاع المحلية أولوية الاهتمام في الوقت الراهن، والابتعاد بالبلاد عن حافة السقوط في الاضطراب المستمر الذي وقعت فيه بلدان عربية أخرى مثل سوريا وليبيا واليمن.

ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن تحقيق ذلك الهدف لن يتم إلا بالتفاف الشعب خلف القوات المسلحة والشرطة في مواجهتهما للإرهاب، ومنعه من أن يؤدي إلى إفقاد الدولة لتماسكها. كما أنهم يميلون إلى الاعتقاد بأن الظروف القاسية التي تمر بها الدول العربية المضطربة ستستغرق وقتاً، وتدخل مصر فيها، أياً كان أسلوبه أو طريقته لن يؤتي ثماراً سريعة، ولا يجب أن تضيع القاهرة وقتاً يجب أن تخصصه لتحصين نفسها ضد ما جرى في هذه الدول.

2 ـ ضرورة ألا تتخلى مصر عن دورها الإقليمي، وتساعد الدول العربية الواقعة في اضطراب على عبور ظروفها القاسية والخروج منها بأي شكل، لأن بقاء هذه الظروف قائمة له ارتداد حتمي على المصلحة الوطنية أو الأمن القومي المصري، شاء المصريون أم أبوا، خاصة مع الامتداد الإقليمي للجماعات والتنظيمات الإرهابية، التي تهدد الجميع بلا استثناء، وإنْ تمكنت من ترسيخ أوضاعها في سوريا وليبيا واليمن، فإن ضررها سيبلغ مصر لا محالة. كما أن الحرب الاستباقية ضد الإرهاب لا يجب أن تقتصر على الأرض المصرية، بل تمتد إلى العالم العربي برمته، بغض النظر عن الوسيلة التي يمكن أن تتراوح بين المساعدة في تقديم المعلومات أو طرح الحل السياسي وصولاً إلى تدريب الجيش الوطني، مثلما يحدث مع الجيش الليبي حالياً، أو حتى التدخل العسكري الذي إن بدا صعباً فإن احتمالاته واردة وقد عبر عنها الرئيس عبد الفتاح السيسي أيام ترشحه للانتخابات بعبارته البسيطة: «مسافة السكة».

ويؤمن أصحاب هذا الاتجاه أنه لا تعارض مطلقاً بين اهتمام مصر بأوضاعها الداخلية وبين انشغالها بالوضع العربي العام، بحكم الدور أو الوظيفة الإقليمية التقليدية لها، والتي اختلفت درجاتها، لكنها لم تختف تماماً في أي وقت من الأوقات، أو بحكم ما تنتظره شعوب وأنظمة عربية من بلد بدا مستعصياً على الانزلاق إلى حرب أهلية أو اقتتال أهلي وفوضى عارمة حين هزته ثورتان.

لكن ما يحقق الخيار الذي ستنحاز إليه مصر في خاتمة المطاف ليس التفكير النظري المجرد، وليس استقراء معطيات التاريخ القريب فقط، إنما ما تفرضه حسابات المصالح المصرية حتى على التيار الانعزالي الذي له جذور في الحياة السياسية والاجتماعية، وإنْ كان هو الأضعف تواجداً قياساً بالتيار القومي العروبي أو الأممي الإسلامي.

وما يجب أن نلتفت إليه، أو ننظر له بإمعان في هذا المضمار، أنها ليست هذه هي المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة في تاريخ مصر التي يُطرح فيها تساؤل حول مدى التوافق والتنافر بين استحقاقات التنمية المحلية في مصر وبين التزاماتها الإقليمية حيال أشقائها وجيرانها. لكن الأمر ربما يبدو مختلفاً في هذه الآونة عما اعتادته مصر على الأقل طيلة الخمسين سنة الفائتة، ما قد يشكل ضغطاً شديداً، ولو إلى حين، على محاولة المواءمة بين ما يطلبه الأهل وما ينتظره الجيران.

والنقاش الدائر حالياً تقوده خمسة تيارات سياسية تشكل في عمومها وجهات النظر والتوجهات الرسمية وغير الرسمية في مصر حيال التعامل مع النظام الإقليمي العربي في الوقت الراهن، وهو ما يمكن التطرق إليه في مقال الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى.
&