محمد الرميحي

ليس من الصعب على كثير من المراقبين أن يصفوا المشهد السياسي في البحرين، منذ ثلاث سنوات على الأقل حتى اليوم، على أنه مشهد صراعي بين طائفتين، يتسم بالكثير من التشدد، بل والعداء. ذلك ما تجده مدونا في الكثير من الأدبيات التي تناولت المشهد البحريني في السنوات الأخيرة الإقليمية والعالمية، ولكن ذلك التوصيف يقنع فقط المتعجل أو الذي لم يرَ الحقائق الموضوعية أو المدفوع بعاطفة، أو المتلبس بآيديولوجيا. حقيقة الأمر أن الاختلاف هو في الأساس سياسي، ركبت عليه تصورات طائفية ممزوجة بشعارات دينية، والدليل أن الطائفتين السنية والشيعية تعايشتا في البحرين لمئات السنين حتى الآن، وتحملتا معا كل أعباء التطور السياسي والاقتصادي وتبعاته، دون شرخ رأسي كما هو اليوم. قلت إن المتعجل يرى أن الصراع بين فئة محرومة وفئة محظوظة، ذلك تعجل آخر، والحقيقة أن ليس كل السنة أغنياء، ولا كل الشيعة فقراء. الأمر أبعد من ذلك التحليل التبسيطي. إلا أن الحقيقة على الأرض أن المشهد البحريني يحظى على نطاق إقليمي وعالمي بحضور شديد الارتباك، جله يرى أن هناك «حركة ربيعية» تريد اللحاق بغيرها من حركات الربيع العربي قد عُطلت. وفي يقيني أن هذا التفكير سوف يتصاعد في وسائل الإعلام، مع العد العكسي الذي يفصلنا بين اليوم ونهاية الاستحقاق الانتخابي الرابع والمزمع عقده في الثاني والعشرين من هذا الشهر. منذ الإصلاحات التي قام بها الملك حمد بن عيسى قبل أربعة عشر عاما.

ثلاثة أسابيع قادمة سوف تبقي الأجندة البحرينية على طاولة النقاش. أجريت انتخابات عامة في البحرين للمجلس النيابي ثلاث مرات منذ أن بدأ الأخذ بالإصلاحات الدستورية، وهي في الأعوام 2002 و2006 و2010. المعارضة استقبلت الإصلاحات بروح إيجابية في البداية، فقد كانت إصلاحات تاريخية، واشتركت في الانتخابات الأولى، وأنا أستخدم مصطلح المعارضة بتعبيره الواسع، ثم قاطعت، لأسباب نشرتها وقتها، الانتخابات الثانية، بعد تلك المقاطعة حصل شيء من النقاش في الداخل، وبين المهتمين بالأمر البحريني، حضر كاتب هذه السطور جزءا منه بدعوة من المعارضة. وقتها كان الرأي، على الأقل الذي تبنيته، أنك لا تستطيع أن تؤثر في نتائج اللعبة، وأنت خارج الملعب، مهما كان صوتك عاليا، وحتى تكون مؤثرا عليك أن تكون داخل الملعب!


صفوف المعارضة وقتها، مع شيء من التأني، انقسمت إلى قسمين؛ الأول وربما الأكثرية اقتنعت بأهمية المشاركة ومحاولة التطوير من الداخل، والثاني الأقلية التي كانت لها توجهات، ربما ذات علاقة بالمشروع «الإقليمي» ظلت على موقفها من التشدد وعدم القبول باللعبة السياسية كما رسمت خطوطها. في الانتخابات الثالثة دخلت شريحة كبيرة من المعارضة «مع التحفظ على التسمية علميا» إلى الملعب الانتخابي، وفازت بما هو معروف من أرقام، ثمانية عشر عضوا ملتزما، من مجموع أربعين عضوا، بعضهم مستقل. ذلك هو المشهد الذي دخل عليه مجتمع البحرين السياسي ورياح «الربيع» تهب مزمجرة من تونس غربا حتى اليمن جنوبا.

هنا يبدو الأمر غامضا، هل قامت تلك الأقلية «بسرقة الشارع السياسي» من خلف ظهر المعارضة، هذا ما يمكن أن تفسره الأحداث اللاحقة. فقد كانت حركة فبراير (شباط) 2011 التي سميت «دوار اللؤلؤة» هي استمالة للشارع من أجل تكرار الربيع العربي بحرفيته في البحرين، ويقر اليوم بعض أطراف المعارضة بأن تلك الحركة الشارعية التي ترغب في تمثل ربيع العرب في البحرين كانت «عفوية». حتى لو تحلينا بحسن النية، فإنها كانت «عفوية منتظمة» تبعتها بعد أن تصاعدت وجذبت الإعلام المحلي والإقليمي والعالمي، تبعتها المعارضة الأوسع، على أمل أن هناك «جائزة» سوف يتم الفوز بها قريبا لا يجوز أن تفوتنا، وتصاعدت الأمور إلى أن تحولت الشعارات من «إصلاح النظام» إلى «تغيير النظام» وإلى «جمهورية إسلامية» وإلى «انتهت الزيارة ارجعوا للزيارة»، شعارات صاعقة، دون الالتفات إلى مشاعر الشريك الوطني، الذي هزته تلك الشعارات حتى العظم وأرسلت في أطرافه توترا عصبيا، وأخذ في معارضة تلك الشعارات في الشارع.

المعارضة العريضة فقدت البوصلة في خضم هذا التوتر الاجتماعي العالي، فرغم العرض الذي قدم من النظام لتهدئة النفوس، وسُمى لاحقا مبادرة ولي العهد الشيخ سلمان بن حمد، اعتقد البعض، خارج سياق الحسابات السياسية، أن ثمة أهدافا قصوى يمكن تحقيقها، وتمت قراءة ذلك العرض على أنه تنازل يمكن أن يأتي بعده تنازل آخر، وكان ذلك ناتجا عن قراءة غير مبصرة لمعطيات الجوار أو الظرف الموضوعي، وخلقت تلك الممانعة آلياتها، التي قادت إلى انسحاب كامل لأعضاء المعارضة من المجلس التشريعي، ومن ثم تنظيم انتخابات تكميلية لمجلس 2010. كان واضحا من نتائج الجولة الأولى أن ثمة من هم في المعارضة ساعاتهم مركبة على المشروع الإقليمي لا على المشروع الوطني.


ذلك الشق الذي خلق من اختلاف التوقيت، ما لبث أن ازداد اتساعا، وأصبح في جزء منه «حروبا بالإنابة» وخرج خارج السياق الوطني لتحقيق الإصلاح، إلى السياق الإقليمي في «كسر العظم» وهكذا دخل الجميع في فقاعة سياسية، دفع الوطن ولا يزال يدفع أثمانا باهظة لها، على رأسها الانشقاق الطائفي والتمترس المذهبي، الذي سمم الأجواء الشعبية ولا يزال يفعل، وذهبت اجتهادات العقلاء أدراج الرياح.


كل ذلك تاريخ، ولكن ماذا عن الغد، وكيف يمكن الخروج، بأقل الأضرار من تلك الفقاعة السياسية؟ الخطأ مركب؛ فأولا ليس هناك تصورات لصيرورة متماثلة لمسيرة التاريخ، من اعتقد أن ما حدث في تونس وفي مصر وغيرهما بعد عام 2011 يمكن أن يتكرر بحرفيته في البحرين مخطئ من حيث المبدأ؛ فهناك تركيبة اجتماعية جيوسياسية لا تؤهل ذلك التكرار. ثم ثانيا لم ينجح تغيير في بلد «تعددي» عربي أو غير عربي، معتمدا على كاهل جناح شعبي واحد، ولا حتى إصلاح حقيقي. جل ما يمكن أن يتم هو إدخال المجتمع في مكان «محلك راوح» إذا افتقدت الأجندة الوطنية الجامعة، فأنت أمام سكة لا مخرج لها، ولا يمكن الطيران بجناح واحد مهما كان قويا، إما أن تؤمن بمساواة كاملة بين المواطنين في الوطن ويتحمل الجميع أعباء الإصلاح، وإما أن تميل لتقديم امتيازات لجماعة على حساب جماعة أخرى، وفي ذلك إخلال بمبدأ المواطنة.

أما ثالثا فلا يوجد أو لا يملك أحد تصورا مثاليا للتغيير. التغيير في المجتمع المفتوح يعتمد على التجربة والخطأ وعلى الصيرورة التاريخية والمساهمة من كل شرائح المجتمع. في خضم هذا الصراع المعطل وداخل «الفقاعة» انتشرت نظرية المؤامرة، وهي مخرج تبسيطي للأمر، وهروب عن مواجهة الواقع. الواقع هو أهمية الانفتاح على الآخر، وعدم استبعاد أية جماعة في الوطن والتفكير في إصلاح عام وشامل وحقيقي للجميع يقوم على قاعدة «الدولة المدنية»، وتخليص الأجندة الوطنية من الأجندة الإقليمية، التي كلما استمرت الفقاعة، أصبح الآخر (الإقليمي) مؤثرا عليها بشكل أكبر.


لقد أثبتت النتائج الأولية للربيع العربي أن ليس هناك طريقان للإصلاح، بل طريق واحد، هو الانفتاح على أفكار الطرف الآخر وعدم استبعاده والمشاركة الحقيقية، كما أن الإصلاح من الداخل إن كان تدريجيا وقطاعيا، يعد أداة ناجعة لتحقيق التغير السياسي والاجتماعي. أما البقاء تحت ردات الفعل وانتظار تطورات إقليمية، أو المطالبة بدولة «دينية»، فكلاهما مخاطرة بالوطن، والشجاعة السياسية المطلوبة في البحرين اليوم أن يراجع الجميع مواقفه السابقة، وأن يقرر «تغيير القبلة» من خلال فرز ما هو وطني ملحّ من المطالب، عما هو إقليمي مرتهن إلى الخارج، وما هو دولة مدنية أو دولة طائفية، والسير في طريق طويل لمصالحة تاريخية وطنية تنقذ هذا البلد الجميل والصغير من الثنائية التبسيطية القاتلة.

آخر الكلام
استبعدت السلطات الانتخابية في البحرين، كما جاء في الأخبار، اثني عشر مرشحا للانتخابات القادمة «لرسوبهم في إجادة القراءة والكتابة». يعتقد البعض أن الجهل هو فقط في عدم القدرة على القراءة والكتابة!!