خيرى منصور

&


بدءا ما أعنيه بالدَعْشَنَة هو تحويل وقائع معينة الى ظاهرة، وبالتالى نقل ما هو طارئ واجرائى الى مستوى المفهوم، لهذا تحرص داعش على ان تبقى فى وسائل الاعلام ونشرات الاخبار على مدى اللحظة وليس الساعة فقط،


وهناك من يتوهمون بأنهم يقاومونها ويعلنون الحرب عليها لكنهم من حيث لا يعلمون يقعون فى فخّ التكريس والترسيخ لإسمها على الأقل، وهى ككل المنظمات الارهابية التى تعتمد العنف منهجا، تتغذى حتى من مبيداتها الاعلامية والسياسية، وقد تسمن بها كما حدث للذباب فى الولايات المتحدة عندما اكتشف علماء الأحياء انه تأقلم مع مبيد دي. دي. تي، وان ما يموت هو طائر الشحرور الذى يتغذّى على الذباب لأنه ليس ملقّحا بجرعات متكررة ومتصاعدة من المبيد وبالتالى غير قادر على التأقلم، وقد يبدو هذا استخفافا بداعش رغم كل ما تقترفه من جرائم الابادة بدءا من الموصل العراقية حتى عين العرب السورية مرورا بكل جُحر أتيح لها ان تكمن فيه، فهى قد تكون البعوضة التى تدمى مقلة الأسد كما قال الشاعر العربى محذّرا من الصغائر، لكنها فى نهاية المطاف ليست فقها قابلا للتمدد والانتشار بحيث تهدد حضارات وعقائد وثقافات عمرها آلاف السنين .

انها تذكّرنا بحالات طريفة شهدها الوطن العربى عندما ظهرت شخصيات شبه وهمية لفرط ما اضاف اليها الخيال الشعبى من الخوارق، بدءا من سعيد مهران بطل رواية اللص والكلاب لنجيب محفوظ ومرورا بأبى طُبر العراقى الذى افزع بغداد كلها فى مطلع السبعينات من القرن الماضى وتداول الناس عنه حكايات تليق بكائنات اسطورية وكانت زوجته تشاركه فى جرائمه، وكذلك شخصية ابو جلدة فى فلسطين التى كانت تنسب اليه افعال تتجاوز قدرته . فالمنظمات الارهابية تشبه الشيطان فى الحرب الشهيرة التى دارت فى اثينا ذات يوم بين الاله اندره والشيطان، فما كان يربك اندره هو ان عدوه لا يُرى بالعين المجرّدة، وكأنه يرتدى طاقية الاخفاء، لهذا تصوّر اليونانيون القدماء انه اضطر الى ان يختفى فى ساق زهرة اللوتس هربا من الشيطان ، ومن طبائع هذه المنظمات ان تتبنى احيانا جرائم لم تنفّذها، لأنها تضيف اليها قوة تفزع أعداءها، وقد يكون تبنّى القاعدة لأحداث ايلول الامريكية عام 2001 من هذا القبيل لكن تلك بالطبع مسألة اخرى تستحق وقفة مطوّلة خارج هذا السياق .

ان توظيف الأشباح او القوى ذات المظهر الشبحى لاشاعة الفوضى او تمرير قضايا بالغة الخطورة عُرف على نطاق واسع فى التاريخ، وفى تاريخنا العربى حدث هذا مرارا، بدءا من محاولة صرف الانتباه الشعبى عمّا يجرى فى مصر والعالم العربى فى الربع الأول من القرن العشرين حين اصبح كتاب الشعر الجاهلى لطه حسين او الاسلام واصول الحكم لعلى عبد الرازق اولى واجدر بالشجب والتظاهر باسم الدين من استعمار ينهش الوطن ويمتص نخاعه .

وحدث ذلك ايضا فى عام 1904 عندما وظّف زواج الشيخ على يوسف لصرف الانتباه عمّا يجرى حين كانت الكولونيالية الغربية تتقاسم شمال افريقيا العربى وبلاد الشام والعراق على مائدة مستديرة، انتهت الى الانتداب والوصاية واخيرا الى سايكس بيكو ووعد بلفور، ولو شئنا الذهاب الى ما هو أبعد فقد اخترع ولاة بغداد خرافة طائر الزُبزُب الذى يخطف الاطفال، عندما كان الحلاج يُصلب ويُحرق ويتطاير رماده فى سماء المدينة، يومها قيل للناس ان الطريقة المثلى لطرد هذا الطائر هى قرع اوانى النحاس على اسطح المنازل .

ان ما يجرى الان تحت الدخان والغبار وتحت الحرب على داعش هو حروب اخرى، يمكن تلخيصها فى هذه العجالة بثلاث حروب الاولى اسرائيلية تستهدف ما تبقى من القدس والاقصى وتسعى الى المرحلة الرابعة من المشروع الصهيونى وهو التهويد، والتهويد يتطلب ذريعة هى وجود جوار لاسرائيل يتشكل من امارات اسلامية يحكمها التطرف والطوائف . والحرب الثانية على مصر الدولة وليس النظام السياسى فقط، فمصر أجهضت مشروعا استهدفها ولم تفكَّك او تُقَسّم، لهذا كان لا بد من استدعاء احتياطى آخر غير ربيع كونداليزا وخريف العرب .

والحرب الثالثة هى على الاسلام بمجمله لكن باسمه هذه المرة، لهذا استعير من المفكر الصديق د . فهمى جدعان عبارته ذات المغزى العميق وهى تحرير الاسلام، فالاسلام الان عُرضة للاحتلال والاستيطان الفكرى الأخطر من استيطان التراب، وهذه المرة لا يتعرّض الاسلام لغزو من خارج نطاقيه التاريخى والجغرافى بل من داخله، ومن جيوب مُتَقَيّحة تسعى الى تسميم دورته الفكرية والدموية معا .

لهذا كله يجب التفريق منهجيا واجرائيا ايضا بين داعش والدَعْشَنَة، فالخطر الأكبر هو من تحول الطارىء والمؤقت الى مفهوم، ثم يبدأ هذا المفهوم بالتسلل خلسة او علانية حسب منسوب القوة الى العالمين العربى والاسلامي، ولو شئت استخدام مصطلح ادق لقلت ان فقهنة داعش هى الخطر القادم ما دام هناك تقويل متعسّف لنصوص اسلامية واعادة انتاج التاريخ برمّته، وحين تُنسَب جرائم ارهابية فى الوطن العربى كله الى داعش فذلك بحدّ ذاته تبرئة لإرهاب آخر يحمل اسماء مختلفة، وحين تتحفّظ الدولة المصرية على المشاركة المباشرة فى الحرب على داعش فذلك بحدّ ذاته وعى بخطورة «الدعشنة» لأن الارهاب لا يُجزّأ الى كسور عشرية الا اذا قبلنا بأن هناك فارقا بين القتل الفورى والقتل بالتقسيط .

وقد تكون داعش كما هى وبحجمها الحقيقى وليس بما يضاف اليها من الاشباح طائر الزُبزُب الذى استخدم للتغطية على صلب الحلاج او البعوضة التى تدمى مقلة الاسد والنمر والفهد معا.

لكن الاخطر من هذا الاسم الحركى الملفق من جغرافيا يجرى تجريفها من التاريخ هو المفهوم المجرد اى الدعشنة بحيث تصبح بسبب التداول غير الدقيق تيارا فكريا عارما وكأن لها فقها او مرجعيات تخصّها، وهى فى الحقيقة لقيط ... فالتاريخ العربى الاسلامى لم ينجبها ولم يكن لها أبا كما ان الجغرافيا التى تختبىء فى كهوفها وجحورها ليست العراق او بلاد الشام او حتى المريخ .

لقد نفخ الاعلام المُعولم فى الكثير من دُمى المطاط وأرضعها، لكنها لم تتحول الى خيول او ثيران وبقيت دمى من مطاط .

ان من أعلن الحرب على داعش وتوائمها على اختلاف الاسماء هو التاريخ اولا، فالمستقبل ليس حليفها، وما أنجزته البشرية من حضارات ليس هشيما بحيث يكفى عود ثقاب لاحراقه وتحويله الى رماد .

وقد مرّ فى تاريخنا الكثير من الدواعش لكن الذى مرّ ولم يمكث هو الدعشنة وفقهها الاعمى ! لهذا ذهب الخوارج مثلا ولم ينجزوا فقها اسمه « فقه الخروج » !!!
&