إياد أبو شقرا

خطوة مهمة جدا طي صفحة الخلاف الخليجي - الخليجي الذي شتت خلال الفترة الماضية جهود مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وبعث برسائل مشجعة لأعداء المنطقة مفادها أنها غدت لقمة سائغة لكل من هب ودب، ما أتاح لهؤلاء تسجيل نصر لا مجال للتقليل من خطورته في اليمن. وأيضا خطوة مهمة بدء مناقشة الأبعاد السياسية لجريمة اغتيال رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان الأسبق في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، ولا سيما دور النظام السوري فيها، بعدما تركزت أعمال الشهور السابقة على النواحي التقنية والأدلة الجنائية. وطبعا، على جانب عظيم من الأهمية ما رشح عن مقترحات الوسيط الدولي ستافان دي ميستورا حول سوريا، لجهة «تجميد» الوضع الميداني وإنشاء مناطق «حكم ذاتي» وترك موضوع بقاء بشار الأسد إلى مرحلة تلي انتخابات تعددية لا قبلها، وهو ما يشكل انقلابا على روح «مفاوضات جنيف» الداعية لسلطة انتقالية تحل محل حكم الأسد.


حقا، يستحيل فصل التطورات الثلاثة أحدها عن الآخر، أمام خلفيتي تصاعد العنف الإرهابي تحت قناع «الإسلام السياسي» بشقه الجهادي، وانهيار فرص السلام الفلسطيني – الإسرائيلي. ذلك أن ثمة علاقة مباشرة بين تنامي شعبية «الإسلام السياسي»، بمختلف وجوهه ودرجاته، وإصرار اليمين الإسرائيلي على تدمير فرص الاعتدال الفلسطيني والعربي والإسلامي. وهو يفعل ذلك مستقويا بالصمت الأميركي على تسريع هذا اليمين وتيرة الاستيطان واستثارته الأصولية الدينية.. لتحويل الصراع في الأراضي الفلسطينية المحتلة من نضال مشروع ضد الاحتلال إلى «حرب دينية» إلغائية لا مكان فيها للمنطق والوعي وخطوط الرجعة.


بالمناسبة, «بروفة» ما نراه من «حرب دينية» إقليمية تشن لغايات سياسية ليست جديدة تماما، ولا تقتصر على إسرائيل. وما يحصل في مناطق عدة من المشرق العربي دليل ساطع على ذلك. فها نحن أمام فتنة سنية – شيعية تنفخ إيران في جمرها عبر تنظيمات طائفية على امتداد المنطقة من العراق إلى لبنان وغزة، مرورا بسوريا، من دون أن ننسى اليمن.. والمحاولات الدؤوبة لنقلها إلى الخليج.


مصلحة اليمين الإسرائيلي من «الحرب الدينية» تقوم على تصفية أي دور للفلسطينيين المؤهلين لخوض مفاوضات سلام حقيقية، وترك الساحة لقوى دينية لا تجيد سوى لغة العنف والإلغاء ولا تقدم شيئا للمواطن على أرض إما محروقة أو مرشحة للمصادرة. أما مصلحة قادة إيران فتتمثل بإلباس مشروعهم «القومي» غلالة دينية ترفع شعارات الإسلام لأنهم عاجزون عن غزو المنطقة بشعارات «الفرسنة». وفي النهاية، ثمة «تقاطع مصالح» يتجلى بالتوافق الضمني على رعاية مشروع «تحالف الأقليات» بمباركة أميركية – روسية، وما «أفكار» الوسيط الدولي دي ميستورا سوى ترجمة لهذا المشروع.


نحن الآن في أجواء تعامل جديد مع ما كان يعرف بـ«المسألة الشرقية» إبان عهد الدولة العثمانية، بالإضافة إلى المناخات المألوفة لـ«الفتنة السنية – الشيعية» و«سايكس – بيكو» و«وعد بلفور».


نعم، «المسألة الشرقية» موجودة في الدول العربية التي سكنها المسيحيون منذ عهود سحيقة وتجذروا فيها وأسسوا إرثا عقائديا وثقافيا وعلميا واجتماعيا أثر في إغناء الحضارة العالمية. وإذا كان تهديد «داعش» حدود إقليم كردستان العراق وسلطات بغداد التي أسسها غزو العراق عام 2003، الشرارة التي حركت رد الفعل الغربي، فإن مخاوف المسيحيين كانت أيضا عنصرا مهما أسهم في بلورة الموقف الغربي. وأنا هنا لا أقصد فقط مهاجمة «داعش» القرى المسيحية (والإيزيدية والشبكية) في محافظة نينوى العراقية فحسب، بل كذلك مواقف القيادات الدينية المسيحية لكنائس العراق وسوريا ولبنان التي رأت وما زالت ترى في التطرف «الجهادي» السني الذي يمثله «داعش» تهديدا داهما أخطر بكثير من تمدد نفوذ آيات الله والحرس الثوري الإيراني في المنطقة.


ومن دون نفي تعمد نظام الأسد استغلال التجاوزات، بل من دون استبعاد ضلوع «شبيحته» فيها، جاء خطف أسقفين مسيحيين بارزين في محافظة حلب، أحدهما شقيق بطريرك الروم الأرثوذكس، في أبريل (نيسان) 2013 مفصلا فظيعا استفز المسيحيين السوريين. أما في لبنان فإن النهج السياسي للبطريرك الماروني، الأكثر تشددا إزاء التطرف السني منه إزاء التطرف الشيعي، فيعرفه اللبنانيون جيدا حتى قبل توليه سدة البطريركية. وبالفعل، كانت معظم تصريحاته، وأبرزها تلك التي أطلقها خلال زيارتيه المبكرتين لفرنسا وروسيا، ترى أن بقاء الأسد يظل أقل ضررا على المسيحيين من تولي خصومه السلطة. ولعله كان يعبر عن هذا الرأي خلال لقاءاته الدولية. وأما البطريركان الأرثوذكسي والكاثوليكي – وهما سوريان – فكانا ولا يزالان على علاقة جيدة بالنظام، وهما قلقان من مصادرة قوى دينية متشددة الثورة السورية بعدما أحجم المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة، عن دعم قوى الاعتدال في الثورة وضمنها شخصيات مسيحية بارزة مثل ميشال كيلو وجورج صبرا وغيرهما.


وأخيرا وليس آخرا، يجب تذكر «مؤتمر الدفاع عن مسيحيي الشرق» الذي عقد خلال سبتمبر (أيلول) الماضي في الولايات المتحدة، وأسهم في تمويله أثرياء لبنانيون وسوريون على علاقات وثيقة برأس النظام السوري و«حزب الله». ومع أن المقررات العلنية للمؤتمر حرصت على تحاشي الاستفزاز فإن أجواءه شجعت سيناتورا أميركيا يمينيا على الدعوة لتحالف المسيحيين المشرقيين مع إسرائيل، ربما كـ«ضامن» لأقليات المنطقة، ما أحرج عددا من البطاركة والأساقفة... فهاجموا دعوته.


في مطلق الأحوال، دي ميستورا يدعو وفق التسريبات عن مقترحاته إلى «مناطق حكم ذاتي». والمنطق يقول إن الهوية الدينية أو المذهبية أو العرقية ستساهم في رسم حدود هذه المناطق. أيضا يستبعد العقلاء تصور أن تكون سوريا المستقبل كما كانت قبل مارس (آذار) 2011، بعد المجازر والتهجير والأحقاد، وبالتالي، حتى إذا ارتؤي بقاء الكيان السوري فلا بد أن يكون كيانا فدراليا فضفاضا.


ولكن، ألم يكن أجدى فرض {مناطق عازلة} و{مناطق حظر طيران} لتقليل حجم الخسائر وإقناع النظام باكرا بفوائد التفاوض على حل سياسي؟ لماذا «مناطق الحكم الذاتي» مقبولة اليوم.. بينما {مناطق حظر الطيران} مرفوضة حتى اليوم؟
الإجابة: فتش عن «المسألة الشرقية»!