محمد آل الشيخ

في ظل المماحكات بين التيارات الوطنية، كما يسمون أنفسهم من جهة، وبين الإسلاميين كما يسمون أنفسهم من الجهة الأخرى، دخلت (الليبرالية) على الخط بين الطرفين، وقام الإسلاميون، بجميع توجهاتهم بتشويهها وتشويه مفاهيمها ثم (عيّروا) خصومهم الوطنيين بها؛ بل اعتبرها بعض بسطاء المتأسلمين، وسار خلفهم فئة من (أتباعهم)، أنها ودين الإسلام على طرفي نقيض؛ فالليبرالية - كما يزعمون - تعني تهميش الدين، والإسلام لن يقوم له قائمة في ظل الليبرالية.

فهل هذا صحيح؟

هذا لا يمت لواقع الفلسفة الليبرالية بصلة. فالليبرالية تعنى أول ما تعنى بالحرية الفردية المقننة وغير المنفلتة، وتجعل منها مُحركا ودافعا لتنمية البشر والرقي بهم في الحياة الدنيا من خلال الاقتصاد.. أما الحياة الآخرة فليست من اختصاصها ولا تعنى بها وتُحيل شؤونها لمن هم أهل التخصص في الحياة الآخرة، ممن يُسمون في المسيحية (رجال الدين) وفي بلاد المسلمين (الفقهاء).

وشعار الليبرالية عندما نشأت في الغرب تلخصها مقولة (دعه يعمل دعه يمر)، وهي من العبارات الشهيرة والتأسيسية التي تُشكل الأساس الذي يقوم عليه بناؤها .. فأساس الليبرالية وركنها الركين والأول (الحرية الاقتصادية)، فمتى ما انتفى هذا الشرط، أو تعارضت معه مفاهيم أي مجتمع، لا يمكن أن يكون ثمة ليبرالية على الإطلاق. وكل ما أتى بعد ذلك يأتي كمكمل لهذا الركن، أو محفّز لتحقيق أهدافه، أو حماية له من هذا العائق أو ذاك.. فالليبرالية السياسية، والاجتماعية، وكذلك الفكرية، مثلاً تأتي كعوامل مساندة وداعمه لتحقيق هدف العمل وحرية السوق.

ومن الملاحظ أن الخصومة بين الإسلام والليبرالية هي فقط في الساحة السعودية، تنتهي بحدودها ولا تتجاوزها، في حين أن كثيراً من المفكرين الإسلامويين خارجها يرون أن التوجه إلى الليبرالية مع الإبقاء على ثوابت العقيدة، لا يتنافى مع الإسلام، وهو ما يجب أن يتطور إليه (الإسلام المعاصر) ليتمكن من البقاء والتعامل مع متطلبات الإنسان في هذا العصر.

يقول الكاتب الإسلامي المعروف «فهمي هويدي» في مقال له: (إن الاتجاهات الليبرالية موجودة في الساحة الإسلامية التي شهدت تطورات إيجابية بالغة الأهمية خلال الثلاثين سنة الأخيرة. وهذه التطورات لم تكن فقط استجابة للواقع، لكنها كانت أيضا رد فعل على موجات التشدد والعنف التي انتسبت إلى الإسلام وأساءت إليه في تلك الفترة). بل إن هناك من يعتبر توجهات (جماعة الإخوان) نفسها مؤخرا، وبالذات في تونس، هي توجهات نحو مزيد من الليبرالية ؛ ولا يمانع «راشد الغنوشي» زعيم (حزب النهضة) التونسي من هذا الوصف، بل يصر على أن هذا من أساسياتهم منذ أن انطلقت (حركة النهضة) وليس الأمر بجديد.

وهذا يعني أن ليس ثمة (خصومة) بين الإسلام والليبرالية، كما هو خطاب المتأسلمين السعوديين الحركيين أو من يردد مقولاتهم.

ومن يزعم أن هناك (ليبرالية) محددة المعالم والتوجهات هي في الغرب مثلما هي في الشرق، بل ويتفق على تفاصيلها الغربيون أنفسهم، فيما بينهم، خلاف الحرية الاقتصادية، وحقوق الفرد الخاصة، وحمايتها من الانتهاكات، أيا كان نوعها، والاحتكام إلى القوانين لا إلى (الكهنوتيات)، فهو يضع لليبرالية أطرا معينة، ويربطها بتجارب تاريخية أو جغرافية محددة، ثم (يحكم) على الليبرالية من خلالها.

وبعيدا عن الجدليات الفلسفية، وتجاوزا للخلاف حول ما يقتضيه المصطلح من مفاهيم ومحددات، وتنوع وتعدد المدارس والمفاهيم الليبرالية، فإن أدق توصيف لما يوصف اليوم بالليبرالية السعودية، والليبراليين السعوديين، هو: (توجه عام، وطني سعودي، يؤمن بالحرية الاقتصادية، والحرية الفردية المقننة وغير المنفلتة، ودولة القانون حسب المرجعيات التي يقبلها أغلبية السعوديين للتقنين، ويسعى إلى الانفتاح الاجتماعي والتنمية البشرية، وعدم التقوقع في الموروث، والإصرار عليه، إذا تصادم مع العدالة والتنمية البشرية بمعناها الواسع).

وبعد ذلك، أو ما دون ذلك، فتفاصيل وتفرعات، قد يقبلها بعضهم وقد يرفضها آخرون. فهل هذا التوجه يختلف مع دين الإسلام غير الكهنوتي طبعاً؟..

وقبل أن أختم أقول: إن الأنظمة الليبرالية في الغرب، وإيمانهم بحرية الفرد، وحقوق الإنسان، هي التي جعلت المسلمين هناك يعيشون منعمين ومعززين ومكرمين وآمنين؛ فلولا الليبرالية ومفاهيمها وفلسفتها لما تمتعوا بحرية دينية مكنتهم من بناء مساجدهم وممارسة جميع شعائرهم في ظل (قضاء ومحاكم) لا تقبل المساس بهذه القيم الليبرالية كمبادئ لا يحيدون عنها.

إلى اللقاء.
&