محمد الرميحي

كان السؤال الأكثر تداولا طوال العام الماضي في الخليج هو: هل ينفرط عقد مجلس التعاون الخليجي جراء ما يشهد من خلافات؟ وما الخيارات المتاحة أمام دوله في حال انفراطه؟ وما مستقبله في حال تدارك الانفراط، إن تم الوصول إلى حلول وسطى؟ كاتب هذه السطور كان على شبه يقين أنه في النهاية لا بد من الوصول إلى وفاق، ليس بسبب عاطفي، ولكن بسبب موضوعي، حيث إن مصادر التهديد للأمن والاستقرار والتنمية في الخليج واحدة، وإن انفراط «السبحة» له نتائج كارثية على الجميع ولا رابح فيه، ويعرض أمن المنطقة لتداعيات خطيرة، ويفتح في نفس الوقت شهية الآخرين لاختراق مصالح هذه الدول وأمنها، واحدة تلو الأخرى، بعد استنزافها ووهنها. كان ذلك رأي الأقربين، أما الأبعدون، فكان لهم رأي آخر، مراهنة على تفاقم الخلاف ولا تخلو تلك المراهنة من تمنٍ شرير، وتضخيم الفوارق وتجاهل الجوامع.


الأخبار القادمة وسط الأسبوع الماضي من الرياض، خسَّرت مراهنة الأبعدين، وتم ما كان يأمل أهل البيت الخليجي أن يتم، طُويت صفحة الخلاف، وانتهت فترة التوتر المرهق. وأرسلت تلك الأخبار تنهيدة ارتياح في صدور أهل البيت جميعا؛ لأن المخاوف كانت ضخمة وحقيقية، وثبت فشل توقع الأبعدين في فهم حقيقة أن هناك رجال دولة في هذه المنطقة يستطيعون أن يمدوا أبصارهم لا إلى مخاطر الحاضر فقط، بل إلى آمال المستقبل. كما تجاهل الأبعدون أن هناك نسيجا اجتماعيا متداخلا ومتكاملا يشد اللحمة ويعيدها إلى صحتها بعد اعتلال.


اليوم، العودة إلى ملف الخلاف، ومن كان على خطأ أو صواب هو تاريخ يُترك للمؤرخين في المستقبل. اليوم، السؤال الأهم والملح هو عن القادم.
والقادم في الوضع الجديد يفترض بناء استراتيجية واضحة تجاه قضيتين لهما الأولوية القصوى، وهما واضحتان وضوح الشمس؛ القضية الأولى أن مصادر التهديد تجاه دول الخليج تقريبا واحدة وجدية، والثانية هي تطوير المنظومة الخليجية مؤسسيا حتى تكون أكثر فاعلية في الإقليم وعلى النطاق الدولي.


والسؤال: هل بالإمكان التصدي لهاتين القضيتين؟ أعتقد أنه بالإمكان إذا تهيأت بالفعل أدوات مطبخ سياسي يُفكر في المشترك والمهم، ويتغاضى عن الصغائر. تفاصيل القضيتين المركزيتين متعددة الملفات، وتفرض إعادة بناء الاستراتيجية وتحديد مصادر التهديد، وهما مصدران: الأول خارجي يتفرع منه الإرهاب بأشكاله المختلفة، كما تسير بجانبه الأطماع الإقليمية التي ترغب في التدخل في الشؤون الداخلية لهذه البلدان، تحقيقا لمصالحها، يضاف إلى ذلك تأثير الحروب الأهلية المتفاقمة، سواء كانت في سوريا أو العراق أو اليمن، كل ذلك مقرونا بعلاقة شائكة وغير مستقرة بالحليف الأميركي أو الحلفاء الغربيين الآخرين، يؤشر إلى أهمية الاعتماد على النفس.


هذا الملف يحتاج إلى إعادة صياغة خليجية متقاربة وشاملة، إن لم تكن موحدة، فعلى الأقل مُتسقة، وإن كان لا بد من توزيع الأدوار فليكن، إلا أن الفكرة الأساسية في هذا الملف أن يكون الاتساق أقرب وأوضح ما يكون، وحتى إن لزم الأمر إلى التفصيل شبه الدقيق. هذا الملف يحتاج إلى جهود دبلوماسية وإلى خطط اقتصادية وإلى إعلام متناغم، وقبل ذلك إلى إرادة جماعية.


من مصادر التهديد للأمن الخليجي خلل مُشاهد في بعض الجيوب الداخلية، وأرجو ألا يسارع البعض بتصغير تلك التحديات الداخلية، لأن العولمة ووسائل الاتصال الاجتماعي، وتأثير المتغيرات حولنا وتفاعلاتها الساخنة وتطلعات الناس، تربط في عصرنا الذي نعيش، الداخل بالخارج، ربطا يكاد يكون آليا. هذا الملف يحتاج إلى النظر إليه في إطار من التطوير الطوعي المتدرج والحاسم باتجاه الدولة المدنية العادلة، ذات الأعمدة القانونية الحديثة، والعمل على إشاعة قيم المواطنة المشتركة بين جميع المواطنين قولا وفعلا، وهذا يحتاج إلى خطط إصلاح داخلي متدرج ومُمنهج، يعطي إشارات واضحة حول المستقبل، وهو ذو قدرة على التكيف مع المستجدات ونفاذ بصيرة مقنع للجمهور الواسع، وله أجندة زمنية واضحة الاعتماد على الحلول الأمنية في مواجهة النتوءات الشاذة مستحقة، وإن كانت الآلة الأمنية مفيدة في الأمد القصير، ولكن إن لم يصاحبها عمل سياسي منظم، قد تقود إلى عكس ما ينتظر منها.


من مصادر التهديد انخفاض أسعار النفط الذي شهد في الأشهر الأخيرة تراجعا ملحوظا، يمكن لهذا الانخفاض، إن أحسنا التعامل معه، أن يكون نعمة، وإن أسأنا التعامل معه يتحول إلى نقمة. إن حُسن إدارة هذا الظرف باتجاه تقليص دور «الدولة الأبوية» أو ما تسمى «دولة الرعاية»، باتجاه تعضيد الدولة الاقتصادية، يكون ذلك الانخفاض إيجابيا على المجتمعات الخليجية، وإن تركت الأمور دون تصور استراتيجي جماعي، كان الانخفاض وبالا على الدولة والمجتمع. لعل الظرف مناسب الآن للحديث عن خطة تكامل اقتصادي كامل وفعال، بين وحدات المنظومة الخليجية، يستفيد من الإيجابيات ويقلص من السلبيات.


من أجل مواجهة مصادر التهديد الداخلية والخارجية، لا بد من وجود «مطبخ سياسي مركزي»، ولعل فكرة تطوير الأمانة العامة بأجهزتها من سكرتارية، كما هي اليوم، إلى مفوضية، كما هو مرغوب، هي الخطوة الأكثر عقلانية، في إطار تطوير الاستراتيجية المبتغاة، فلم تعد الأمانة العامة بصلاحيتها المحدودة، تستطيع أن تقدم أفكارا ورؤى، تقود إلى تفعيل المؤسسات الخليجية المشتركة القائمة، أو خلق وابتكار مؤسسات أخرى جديدة يحتاج إليها الإقليم.
مجلس التعاون هو جزء من نظام أكبر هو النظام العربي، وكان تصدع النظام العربي في جزء منه لعجز الدول الأكبر فيه عن مواجهة التحديات، وجزء آخر من عجزه نابع من اختلاف الرؤى الخليجية تجاه قضايا عربية ملحة، بعد توحد الرؤية الخليجية يستطيع هذا النظام الفرعي (الخليجي) أن يقود، في هذه المرحلة الحاسمة، النظام العربي إلى المعافاة، ويزيده مناعة في ظل المشاهد من الانهيار العام، جراء نتائج محسوبة، أو غير متوقعة، لما سمي «الربيع العربي».


من المناسب أن تفوض القمة القادمة في قطر، مجموعة عمل من خلال الأمانة العامة لوضع دراسة جادة وعملية، باتجاه إقامة تحالفات عربية جديدة، تستطيع أن تقلل من المخاطر والتحديات القائمة، ورسم خريطة جماعية لإدارة التفاعلات في الإقليم، التي هي تفاعلات ضخمة وغير مسبوقة.


يأمل أبناء دول مجلس التعاون أولا أن يكون الوفاق الأخير هو آخر الخلافات التي يمكن أن تظهر، كما يأملون أن تكون هناك نقلة نوعية لأعمال مجلس التعاون تصب في صالح الأمن والتنمية لهذه المنطقة التي هي ربما آخر معاقل الاستقرار في إقليم تنشب في عنقه مسيرة قد تطول انحدارا إلى الأسوأ من الصراعات المُميتة.
آخر الكلام:
مرة أخرى يُثبت قادة مجلس التعاون القدرة على الحصافة السياسية والعمل الجاد على تنقية الأجواء لانتشال الإقليم من أجواء الاضطراب، إلا أن المأمول الاستفادة من الفرصة لتعميق التعاون وتحويله إلى سوق تشتبك فيها المصالح وتقام على مؤسسات.