عبير العلي

المخاوف من استسهال المتعاطفين مع "داعش" - وهم كثر بيننا - لفكرة الهجرة والنفير وإيمانهم أنهم في بلاد "كفر" لا يأمنون فيها على "دينهم"، لها ما يبررها، خاصة أننا في مجتمع مخترق بأفكار التطرف


أصبح مصطلح "الهجرة" أو "النفير" الذي برز مجددًا مع ظهور التنظيم الإرهابي "داعش" منتشرًا ومتداولاً بكثرة بين المنتمين والمتعاطفين مع هذا التنظيم، وخلال الأشهر الماضية سمعنا ورأينا العديد من الأشخاص من مختلف الدول يُعلنون "نفيرهم" لأرض "الجهاد" في الشام والعراق لمساندة هذا التنظيم في أعماله الإجرامية واللاإنسانية التي أقنع بها أتباعه. وباستخدامهم له يسيئون لمفهوم الهجرة التي أمر بها الرسول ـ عليه السلام ـ أصحابه في المرة الأولى للحبشة، وقام بها لاحقًا إلى المدينة المنورة في عصر الإسلام الأول، حماية للمسلمين من بطش مشركي قريش. هذه الإساءة إلى الإسلام ليست بجديدة على "داعش" وأمثاله من التنظيمات الإرهابية وممثليها الذين شوهوا صورته النقية بتبنيهم مصطلحات إسلامية أصيلة كالجهاد والهجرة، وعسفوا النصوص والأشخاص كأسلافهم لتأييد أفكارهم وإقناع الناس بها.


جميعنا لاحظنا مؤخرًا إعلان بعض الشباب السعودي عن "هجرتهم" و"نفيرهم" إلى بلاد الشام والعراق، حيث يُعتقد أنها أرض الجهاد وما سواها بلاد كفر، والتي هي الآن معقل لإرهابيي "داعش" وحاضنة لمجازرهم التي تُرتكب في حق المسلمين وغير المسلمين. كان من معلني النفير: المواطن الآمن في بلده وعمله وبين أبنائه، والذي ركل كل هذه النعم لينقاد إلى الضلال وسوء المصير. ومنهم الطالب المبتعث الذي نال فرصة يحلم بها الكثير غيره لتلقي العلم والمعرفة في أرقى الجامعات في الخارج على حساب وطنه، ثم خانه ببساطة وباع نفسه ومستقبله لطواغيت الشر. حتى سمعنا مؤخرًا بالتحاق إحدى السيدات السعوديات و"نفيرها" إلى بلاد الشام هي وأبناؤها في سابقة ومؤشر خطير، خاصة وهي كانت تسوق لنفسها قبل عدة سنوات أنها من مناصري الحرية والحقوق العامة في المملكة، وأصبح لها قاعدة جماهيرية من المتعاطفين والمؤيدين لنضالها الوهمي.


سبق لهذه السيدة أن أرسلت ابنها المراهق إلى بلاد الاقتتال قبل عدة أشهر، وغرّدت قبل أيام على حسابها معلنة وصولها إلى الشام بعد رحلة طويلة من التآمر والتهريب لليمن، ولقاءها بعدد من إرهابيي القاعدة هناك وإيواءهم لها ثم مساعدتها للعبور إلى الشام. المشكلة الحقيقية في مثل هذه السابقة من إعلان انضمام سيدة سعودية لداعش لها ماض مخزٍ من التآمر على استقرار الأمن الوطني، أن جمهور المتعاطفين معها -ذكورًا أو إناثًا- ستقوى عزيمتهم وحججهم لمحاولات "الهجرة" المزعومة، واختراق الحدود، وتأليب الصغار والمراهقين على تجاوز الأنظمة تحت ذريعة نصرة الإسلام والجهاد والفرار بدينهم من مواطن الفتنة!
هذه المخاوف من استسهال المتعاطفين مع "داعش" – وهم كثرٌ بيننا- لفكرة الهجرة والنفير وإيمانهم أنهم في بلاد "كفر" لا يأمنون فيها على "دينهم"، لها ما يبررها خاصة أننا في مجتمع مخترق بأفكار التطرف على مدى سنوات طويلة، حتى ترسخ في أنفس وتفكير الجيل المعاصر ما خلفته "الصحوة السلفية" من أفكار تتقاطع مع أفكار وتصرفات الكثير من المنظمات الإرهابية المعاصرة، وعلى رأسها القاعدة و"داعش"، وأصبحت جزءًا من اللاوعي الجمعي.


أول من قدم مصطلح اللاوعي الجمعي للعالم هو الطبيب النفسي السويسري الشهير كارل جوستاف يونج (1875-1961)، مؤسس علم النفس التحليلي، والذي اهتم بشكل بالغ وعميق بدراسة وتحليل تأثير الأمور الخافية (الباطنية) على سلوك الإنسان وأفكاره، وكان أول من ابتكر مصطلح "اللاوعي الجمعي"، "Collective Unconscious، وهو الذي يشترك فيه غالبية البشر، وصنفه لأربعة نماذج من أشهرها نموذج "الظل – Shadow"، والظل: هو كل جزء ظاهر من أنفسنا يملك نظيرا مقموعا ومضادا له. وبإمكاننا إسقاط هذا التعريف على الكثير من الأفكار والسلوك البشري المتباين الذي يصدر منا أو من المحيطين بنا سواء بجانبه السلبي أو الإيجابي.


شخصية الظل التي كانت خلف سيدة "داعش" السعودية الأولى، هي بلا شك وحسب معيار يونج نتاج شخصية مسحوقة ومقموعة بفعل التربية المتطرفة، والتي سايرت هذا التطرف حينما عجزت عن الخلاص منه، وحملت شعاره ونصبت نفسها مع مثيلاتها كمخلصات وداعيات للدين وداعيات للحرية المزعومة للمعتقلين الذين يقاسمونهن هذا الفكر الإرهابي. هذا النموذج يوجد منه الآلاف في مجتمعنا وخاصة في الأوساط النسائية المتلقي الأول - والمصدّر الأكثر تأثيرًا - للتطرف والإقصاء بفعل الإسقاط الذي يقع عليها لاعتبارات كثيرة عززتها التربية الدينية والاجتماعية، أهمها تصويرها بأنها عورة وفتنة وأخطر ما يواجه المسلم (الذكر) على نفسه ودينه.


سيدة "داعش" الإرهابية الفارة عبر الحدود اليمنية تطرح بقضيتها تساؤلات كثيرة: هل تحتاج الحدود تأميناً أكثر خاصة مع حالات الفرار هذه؟ ومن هؤلاء المنسقون لتهريب النساء والأطفال لمحاضن الإرهاب؟ والأهم هل ترك الأطفال مع آباء أو أمهات مدانين بقضايا إرهابية ويتوقع أن يعدّوهم كقنابل موقوتة تحمل تفكيرهم ونواياهم، هل ترك هؤلاء الأطفال في مثل هذه الأسر يعتبر نوعا من الإساءة والإيذاء لهم وينبغي التدخل لحمايتهم عبر جهات حكومية تتحمل مسؤولية تربيتهم ونشأتهم في وسط تربوي واجتماعي يحميهم ويحمي الوطن مستقبلًا؟!
شخصيات الظل النسائية التي تحمل طابع التطرف الديني والإرهابي أشد خطرًا من غيرها، وقد أذكر في مقالة قادمة صورًا وأساليب بعض النماذج التي تدعم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة هذا الفكر المتطرف، وتُعد ولائم بشرية جاهزة لـ"داعش" وغيره من أبناء هذا الوطن.
&