علي بن حمد الخشيبان

يقول العالم هوبز عن السياسة إنها "فن ومشكلة" فلذلك فإن العمل السياسي هو إنتاج الفن في واقع المشكلة، ومن هذا التعريف يأتي سؤال يقول: كيف يدير الخليج العربي سياسته المشتركة وكيف يواجه أزماته..؟، قبل الحديث عن ذلك السؤال يجب أن ندرك ونتعرف على المتغير الثابت السياسي الرئيس والذي يذيب كل المتغيرات الطارئة حول الالتفاف الخليجي الذي يعود إلى واقعه التعاوني بسرعة.

من الطبيعي أن تكون التوقعات سلبية تجاه استمرار هذا التعاون وخاصة في ظل "ذاتيات عميقة" لكل دولة من دول الخليج وقد راهن الكثير على أن التساوي الكبير في "ذاتيات" الدول المكونة للمجلس قد يكون سبباً رئيساً في إحداث الأزمة بينها ومن ثم الانهيار في منظومة التعاون، وقد حدث هذا في منظومات تعاون عربية وغير عربية انهارت بسرعة، ولعل الفرضية التي طرحت حول دول المجلس خلال العقود الثلاثة الماضية تقول: إن كل دولة من دول المجلس قد تتعامل مع فكرة التعاون من خلال تميز منفرد في إطار اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي يجعلها تشعر وبسرعة هائلة أنها يمكن أن تستغني عن فكرة التعاون وتستند إلى فكرة الإحساس "بذاتية عميقة" تجعلها تنفرد لوحدها.

دول الخليج التي تقاوم هذه "الذاتيات العميقة" تعتمد على متغير سياسي ثابت يمكن أن يطلق عليه التماثل الهائل في منظومة "مؤسسة الحكم" بين دول الخليج فهذه الدول لديها ثقافة سياسية متماثلة إلى درجة التطابق من حيث التكوين السياسي للنظم والتكوين الاجتماعي والتكوين الثقافي، بمعنى أدق المتغير الثابت هو طبيعة السلطة السياسية بين هذه الدول، وهذا المتغير الثابت والذي يدل على التماثل في تركيبة مؤسسة الحكم يخفف من صعود فكرة "الذاتية العميقة" والتميز الذي يمكن أن ينشأ نتيجة تميز اقتصادي أو اجتماعي أو حتى تاريخي أو ثقافي.

دول الخليج التي تتماثل في أهم منظومة تشكلها وهي المنظومة السياسية وثقافة الحكم، تؤمن مجتمعة أن هذا الواقع يجب أن يستمر لذلك تنشأ كل الأزمات في مستوى أقل، وهذا أحد الأسرار القوية في تشكل هذه المنظومة وبقائها فمع كل الاختلافات في منهجية الإطار السياسي في دول مجلس التعاون ألا أن مربع مؤسسة الحكم ظل منيعاً أمام كل هذه الأزمات التي مرت على دول المجلس التي سوف تظل في تعاون وقد تصل بسرعة إلى فكرة الاتحاد ما دامت تراعي منظومة التماثل السياسي بينها لأن كل ما هو أبعد من ذلك يمكن حله.

الكتلة السياسية التي صنعتها دول مجلس التعاون خلال أكثر من ثلاثين عاماً أصبحت أكبر حجماً نتيجة تدحرجها في مسارات السياسة الدولية وأروقتها، وهذا يعطيها القوة مع تقادم السنين ولكن يبقي السؤال عن تلك الظروف التي تواجه هذه المنظومة بينما هي تسير في طريقها السياسي، اعتادت المنظومة الخليجية أن تمر إلى مصالحها المشتركة من خلال المصلحة الفردية والجماعية للدول وهذا تحليل سياسي مقبول عن تلك الدول الخليجية وهنا لابد من الإشارة إلى أن منظومة التعاون الخليجي منظومة مفتوحة لجميع الدول للعب دور سياسي بارز في تحقيق المصالحات السياسية.

إن جميع دول الخليج الست دون استثناء ساهمت قياداتها السياسية في لعب دور بارز خلال الثلاثة عقود الماضية في حل أزمة طارئة بين دول المجلس وهذا يمنحها الخبرة السياسية، وهذا المنهج المشترك بين دول المجلس وإحساسها بدورها ساهم في تقليل فكرة الذاتية العميقة مما خلق منظومة من العمل السياسي، بحيث تدرك كل دولة خليجية وبحسب نوعية الأزمة الطارئة دورها، فتجد أن قيادة دولة من دول المجلس للمصالحة في أزمة سياسية لا يأتي مصادفة إنما يأتي وفق موقف سياسي أو أدوات سياسية دقيقة يجب معرفتها من خلال منظومة المجلس نفسه.

بين دول المجلس يظل التقدير السياسي في منظومة الحكم يعتمد على قيم ومبادئ راسخة تحولت بفعل تأثيرها وأثرها العملي إلى قيم سياسية معترف بها ومنها تقدير النظام السياسي الأكبر، فنجد مثلاً أن عامل السن بين قادة دول المجلس يلعب الدور الأبرز في إنهاء المشكلة وإعادة المنظومة إلى واقعها وكلما كانت الفرصة متاحة لنشوء أزمة عابرة، دول مجلس التعاون كمنظومة سياسية متجانسة تساهم المشتركات بينها في ترسيخ مبادئها وترسيخ مسيرتها السياسية، ولهذا السبب تنظر دول مجلس التعاون إلى مؤسستها القائمة "مجلس التعاون" كمنظمة راسخة في التكوين السياسي والاجتماعي لجميع دول المجلس ومجتمعاته.

إن عملية الثبات السياسي بين دول المجلس تحولت إلى متغير ثابت فلذلك يمكن التنبؤ بأن دول الخليج وفقاً لتجربتها التعاونية لديها القدرة على الاستمرار في مقاومة الأزمات وهذا مهم ولكن الأهم أن يكون لديها القدرة على ترسيخ الإطار المشترك بينها في منظومة الحكم وجعل التنمية والتطور مهمة يمكن أن تنجح من خلال الاستخدام الأمثل للعقل السياسي، وخاصة أن التقاليد في هذه الدول تتفوق على منظومة القوانين في كثير من المواقف المجتمعية.

خلال السنوات الماضية عملت دول المجلس على تشكيل مصالحها السياسية وفقاً لأهدافها وقد راعت الكثير من مصالحها الذاتية في مسيرة التعاون، وهذا طبيعي كنتيجة حتمية لتاريخها السياسي وموقعها الجغرافي، هذه الدول قد تواجه حزمة من التوقعات الطموحة من شعوبها، وإذا ما حدثت هوة كبرى بين مستوى التوقعات والواقع فقد تواجه دول الخليج أزمة مرة أخرى تتطلب منها شرح الواقع الحقيقي لمسيرة التعاون بينها.

التوافق في منظومة الحكم بين دول مجلس التعاون شكل قوة لا يضاهيها سوى التوافق في المنظومات الاجتماعية ولعل السؤال المطلوب الإجابة عليه الآن هو: كيفية العمل بين دول المجلس للحد من الأزمات المستقبلية؟، وهنا يجب الاعتراف بأنه حان الوقت للدمج الثقافي بين دول المجلس فهذا النوع من الدمج يشكل جداراً عازلاً أمام الأزمات إذا ما تم تقويته بشكل دقيق.

الشعوب الخليجية وفي سبيل مصالحها تتطلب أن تكون أكثر اندماجاً في منظومتها الثقافية من حيث التعاون الثقافي وصناعة أجيال من المفكرين والأدباء والمثقفين، فمؤسسة مجلس التعاون لديها الكثير من المهام المنتظرة فالقيام بالدعم المباشر للكيان السياسي لدول المجلس يتم عبر تقوية المنظومة الثقافية بين دول المجلس من خلال المؤتمرات الدورية في جميع المجالات وتحديداً الجوانب الثقافية والفكرية والإعلامية، التي تعاني من نقص كبير أثبتته كل الأزمات الماضية.
&