راشد بتال، الذي ترك معملاً للمواد الإنشائية ومنزلاً كبيراً في مدينة الرمادي، يجلس الآن وحيداً في حديقة عامة وسط أربيل، يتلقى المكالمات الهاتفية التي تأتي بالأخبار السيئة: «الجماعة (الدولة الإسلامية) يستريحون من المعارك في المعمل... لقد تحول إلى مقر لهم».

أما منزل بتال، فقد سويَّ أرضاً، لأن إحداثيات وصلت للطيران الأميركي وضعته هدفاً للقصف. ففي الأيام التي سبقت الضربات الجوية قرر المسلحون اللجوء إلى منازل المدنيين تجنباً للمواقع التي يسهل استهدافها من الجو.

يقول بتال، «لقد شاركت في التظاهرات التي خرجت في الرمادي ضد حكومة نوري المالكي (…) إنه طائفي، وكان رحيله أفضل لجميع العراقيين، أما اليوم فقد رحل وبقيت داعش، التي لم نحسم بعد أمر معارضتها».

بتال، الذي يبلغ من العمر ٦٠ سنة، يرى أن عودته إلى مدينته قد تطول أكثر مما توقع.

في الحقيقة، يتعرض السنة في العراق إلى ضغط كبير للإجابة عن سؤال: هل تؤيدون داعش؟ وفي الغالب تبدو الإجابات مؤشراً لفرص نجاح أو فشل الحرب الدولية التي تستهدف القضاء على التنظيم.

وفي المقابل، يرى السنة أن هذا السؤال يعد «بطراً» بينما يعانون تحت وطأة الحياة التي فرضها التنظيم.

في تكريت، شمال بغداد، توقفت الحركة في السوق مطلع شهر كانون الأول (ديسمبر) لأن المسلحين قطعوا الطريق إلى ساحة وسط المدينة وهم يقتادون عشرة شبان. لقد جلدوهم أمام مرأى الجميع، وأعلنوا أن تهمتهم «التدخين علناً».

وفي الرمادي، غرب بغداد، ينتظر المسلحون في تنظيم «الدولة الإسلامية» الجنود في الجيش والشرطة لإعلان التوبة في المساجد. زايد عبد الرحمن، أحد عناصر قوات الصحوة السنية، تلقى مكالمة هاتفية من أحد قادة «الدولة الإسلامية» يطلب منه «الشهادة»، والبراءة من عمله الأمني. وأخيراً تسليم سلاحه.

يقول عبد الرحمن، إنه لم يكن يملك سلاحاً، ما اضطره إلى شراء سلاح من السوق السوداء لتكتمل توبته. في النهاية، تنحسر الحياة أمام السكان وتضيق أمامهم خيارات العيش، في المدن التي يسيطر عليها التنظيم.

هناك نحو ٦٠ عاملاً في معمل المواد الإنشائية الذي يملكه بتال. نصفهم تقريباً انخرط في نشاط «الدولة الإسلامية» وصاروا يحملون السلاح ويتلقون ضعف ما كانوا يحصلون عليه من رواتب في المعمل. النصف الآخر بين نازح وبين من اختار المكوث في المنزل بانتظار «الفرج».

لكن، أخيراً، كشف مسلحو «الدولة الإسلامية» الوضع الهش في الأنبار، حين اجتاحوا مركز المدينة واحتلوا مقارها الحكومية، وتمددوا إلى بلدات مجاورة كما في «هيت» و «٥ كيلو»، في وقت تقهقر الجيش العراقي ومساندوه من بعض القبائل في مشهد كاد أن يكرر ليلة سقوط الموصل، في ١٠ حزيران الماضي.

يجلس بتال، في الحديقة ذاتها وهو لا يتوقف عن التدخين بينما يستمر في الاتصال بمن يعرف في الرمادي، ليقول، «إقامتي في أربيل ستطول».

لكن بتال ليس الوحيد المهموم بالعودة إلى الرمادي. ثمة العشرات من أبناء المدينة الذين توقعوا أن إقامتهم لن تطول قبل أن يعودوا مجدداً.

في نادٍ ترفيهي شمال أربيل، يجتمع الأنباريون «المنفيون». تبدأ كل يوم قصص المعاناة التي فرضتها ظروف الانتقال إلى مكان جديد. إنهم يحاولون الإفلات من عوائق اللغة المختلفة، والإجراءات الصارمة التي يفرضها «الآسايش» - وتعني الأمن الكردي - لكنهم سرعان ما يعودون إلى مصير مدينتهم.

&

العودة إلى «داعش»

يقول خالد كريم، الذي غادر مدينة الفلوجة (غرب بغداد) قبل نحو ستة أشهر، إنه لم يعد بإمكانه البقاء أكثر في أربيل، «ليس لدي ما يكفي من المال لاستمر هنا (…) أطفالي خسروا العام الدراسي، وأفضل ما يمكن القيام به اليوم هو العودة إلى الفلوجة».

والحال، أن كثيرين من الذين نزحوا يفكرون بالعودة لكن عليهم القبول بالواقع الجديد في مدن الأنبار. وفي هذه الطاولة يتعالى الصخب داخل النادي، لأن هؤلاء الأنباريين يتجالدون على أن فكرة العودة تتطلب «التعايش مع داعش».

وفي الحقيقة، فإن «التعايش» هناك يعني مبايعة التنظيم. لهذا يردد رفاق راشد بتال عبارة: «وما الذي يمنع؟.. ألا يعيش من بايع بشكل طبيعي». ثم يسود الصمت حين يسأل أحدهم، «أترضون أن تعيشوا تحت رحمة الأجانب».

ويتداول النازحون من مدن تكريت والموصل والرمادي قصصاً عن مسلحين عرب من تونس وليبيا والشيشان والسعودية وغيرها يسيرون أمور المدينة. ومنها أنه في عيد الأضحى قام شبان عرب مسلحون بتوزيع الأضاحي على السكان، لكن آخرين يروون حكايات عن مسلحين أجانب يراقبون خمار النساء ويحتجزون أزواجهن عقاباً على التبرج، أو أن قياس الثوب أقصر مما حدده «قانون الدولة الإسلامية». «أحدهم، وفي نقطة تفتيش تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية أدخل رأسه في السيارة ليتحقق من ثوب النساء (…) ثم أدار وجهه لزميل له في التنظيم ليقول: الأخوات مستورات».

ومع ذلك، ثمة أصوات تقول، «ما يجري أفضل من جيش طائفي يتعمد إهانة السنة».

يقول بتال، «قبل سقوط الموصل ومدن أخرى كان الجيش العراقي يتعمد إهانة السكان (…) ثمة جنود يشتمون عقائد الناس، ويعتقلون أشخاصاً من دون سبب أو جرم».

ويضيف، «عملياً ضحايا القهر صاروا حاضنة لداعش».

إنهم يرددون أسماءً لأصدقاء وأقارب لهم، انخرطوا في التنظيم لأن ذويهم بين معتقلين في سجون الحكومة، أو قضوا في مناوشات مع الجيش. وثمة شبان يعتقدون أنهم سيحررون العاصمة من الإيرانيين.

في النهاية، يبقى الحال على ما هو عليه، وينفض مجلس الأنباريين في النادي ويجرّون الخيبة إلى غرفهم في الفنادق.

&

متاهة السنة

وتبدو مشكلة السنة في الأنبار معقدة قبل أن يحسموا أمرهم من الوضع الجديد تحت سيطرة «الدولة الإسلامية»، الكثير منهم لا يزال يحتكم إلى علاقته السيئة بالحكومة المركزية - التي يراها الجميع شيعية بامتياز - ليقرر موقفه من المسلحين.

إنها متاهة اجتماعية دخل فيها سنة العراق تعكس مؤشرات مخيفة لمستقبلهم في البلاد، ليس أقلها التردد والتفكك الذي تعانيه النخبة السياسية السنية، وأيضاً التأثيرات السلبية العميقة للحكم الذي فشل في جعل السنة جزءاً من عراق ما بعد صدام حسين.

ويتحكم بهذين العاملين تراث سياسي وطائفي يتعلق بشعور السنة فقدانهم «المكانة» التي كانوا يحظون بها. يقول بتال، إن الضباط السابقين كانوا يجتمعون سراً في المدينة، لكنهم اليوم «حاكم ومسيطر» على الأرض في حلف قوي مع «داعش» والعشائر.

لكن التعقيد يزداد حين يُقال للسنة، إن «المبررات التي تساق لهذا التراجع» غير كافية.

يتسـاءل عمر الشاهر، الصحافي العراقي المتخصص بالوضع في محافظة الأنبار، «هل يدري سنة العراق أن مدنهم دمرت؟، وأن سكانها شردوا؟ هل يدري هؤلاء عن حجم الثارات التي انزرعت في قلب المجتمع؟ ماذا يجب أن يحدث في مناطقهم كي يتيقنوا أن وراء الأمر شراً عظيماً؟ كم عليهم أن ينزفوا كي يصدقوا أن الدولة هي البديل؟».

بالنسبة للنازحين السنة الذين تركوا مناطقهم، لا يعرفون إجابة محددة عن مثل هذه التساؤلات، لكنهم يحسبون، في لحظة ضبابية، إن انتشار المسلحين في مناطقهم وتمددهم بمثابة تحقق «نظام جديد».

وأخيراً، تصاعد نشاط مسلحين سنة مناوئين لتنظيم «الدولة الإسلامية»، عن طريق تسليحهم وتمويلهم من قبل الأميركيين. السنة في مناطق النزوح يعتقدون أن التعامل مع واشنطن أفضل من بغداد. في هذه الأجواء يتلقون أخباراً عن إعادة إحياء تجربة الجنرال بترايوس في التعاون مع فصائل سنية ضد تنظيم القاعدة، في عام ٢٠٠٧.

يقول بتال، «هذا يتطلب وقتاً طويلاً لنعرف ما إذا كان من الممكن العودة».

&

خريطة معقدة للقوى

يخرج راشد بتال، صباحاً، إلى مطار أربيل. يستقبل ابن عمه، زيدان، الذي تمكن من الخروج من الرمادي بعد شهور من المكوث في المدينة منذ أن بدأت فيها المعارك العنيفة بين الجيش والمسلحين.

يسأل بتال عن أحوال المدينة، ويجيب ابن عمه، «لا شيء. كل ما تسمعه غير حقيقي. الوضع هادئ، والحياة طبيعية، حتى أن (فلاناً) تزوج الخميس الماضي، وجال موكب زفافه المدينة حتى المساء».

تبدو قصة عن مدينة أخرى غير الرمادي، وحين يدقق بتال في القصة، يأتيه الجواب، «الجيش يقصف البيوت والمستشفيات كل يوم. أما داعش فلا وجود لها، والمسلحون المنتشرين في الشوارع أبناء العشائر، وهم ثوار». يضحك بتال. سرعان ما يغضب على ابن عمه ويبدأ جدل عن البيضة «داعش»... والدجاجة «الثوار».

والحال، إن هذا مأزق سني آخر. ففي حين يبرئون مدنهم من «الدولة الإسلامية»، يقعون في فخ تبرير أنشطة متطرفة، من البداهة إنها من عمل الثوار. والعكس، فإن «داعش» ترتكب الفظاعات، والثوار في موقف المتفرج.

ثم يعود زيدان، الزائر الجديد لأربيل ليناقض نفسه، «داعش دولة فعلاً، لديهم بيانات دقيقة عن السكان. هوياتهم، أعمالهم ووظائفهم، الجامعات التي تخرجوا فيها. يعرفون ملكية السيارات، والمخالفات المرورية».

ويروي زيدان، أن نقطة تفتيش لعناصر «داعش» في منطقة (٧ كيلو) في الرمادي كانت تدقق في العجلات المارة. كان المسلح ملثماً، ويرتدي ثوباً وقبعة يذكّران بالزيّ في البلدان الإسلامية في شرق آسيا، يحمل سجلاً ضخماً في كل شيء. كان يقارن أوراق الأشخاص بما دوّن عنده في السجل.

ويبقى أن يساعدنا زيدان في حل لغز العلاقة بين «داعش» والجماعات المسلحة. فيقول، «هناك جماعات تقاتل مع التنظيم، إنها متحالفة معه. لكن جماعات سلفية أخرى تلتزم الحياد، لكنها لا توفر الخدمات للجيش العراقي، ولا يمكن أن تقاتل داعش من أجله.

ويضيف: «هناك جماعات جرى تأسيسها على نهج السلفية الجهادية، تنتظر انسحاب داعش أو تقهقرها في منطقة ما، لتسارع إلى احتلالها قبل دخول الجيش، وقد تشتبك معه من أجل السيطرة، وعملياً الجيش العراقي ومن يسانده يواجه هذه الخريطة المعقدة من القوى التي يستثمرها داعش بنجاح».

ويتابع، «وفي وقت لاحق يقوم داعش بعقد تسوية مع تلك الجماعات من أجل استعادة المناطق التي خسرها».

&

ما يريده السنة

يحاول النازحون السنة من الرمادي، الحصول على مساكن مشتركة، أو قريبة من بعضها في أربيل، إنهم يفضلون البقاء سوية لتجاوز الأزمة النفسية التي يخلفها العيش بعيداً عن مدينتهم. بعضهم في الأساس يسكنون في بلدة واحدة في محافظة الأنبار.

في مجمع سكني بعيد عن مركز مدينة أربيل تتمركز نحو ٢٠ عائلة من الفلوجة، يحاولون التعايش مع الوضع الجديد.

في أربيل، يضع الأمن الكردي العرب السنة القادمين من مناطق الاضطراب خصوصاً الفلوجة والموصل وتكريت، تحت الرقابة. يقول ضابط كردي، إنهم يخشون من أن يكون بين ١٠ آلاف شخص نازح من تلك المناطق أنصار لـ»الدولة الإسلامية». وفي الحقيقة تشتد هذه المخاوف مع هجوم مسلحي «داعش» على مناطق كردية.

والحال، أن النازحين السنة من تلك المناطق يحاولون «التأكيد» في اختلاطهم مع السكان الكرد أن «داعش» تنظيم إرهابي.

في المناطق السكنية، حوّل الشبان القادمين من الفلوجة حديقة كبيرة تتوسط المساكن إلى مكان لجلسة سمر، لكنها في الحقيقة مجلس يومي لجمع أخبار المدينة. يسردون لبعضهم قصصاً تلقوها من أقرباء في المدينة، وكيف أن الحال لن يجد نهاية له قريباً. بعضهم ينتظر فقط أن يحسم «فائز حقيقي في المعارك الدائرة» ليعودوا إلى ديارهم، وبينما ينتظرون تحقق الأمن والهدوء هناك لا يعرفون إذا ما كان «داعش» هو من سيفوز في النهاية.
&