ابتسام الكتبي

&تدلّ المُكتسبات النّوعية التي حققتها دولة الإمارات على نجاح الإرادة السياسية في استصحاب الخبرات المتخصصة، فقد كان الآباء المؤسِّسون للدولة مُدرِكين لضرورة استشارة أهل التخصص في أيّ قرار يريدون اتخاذه، ويتضح ذلك من خلال استقراء تجربتَيْ المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، والمغفور له، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم.

وقد تطورت منهجية الاستفادة من الخبراء ومراكز التّفكير Think Tank فيما بعد، فتمّت الاستعانة ببيوت الخبرة، وكذلك تمّ إنشاء مراكز دراسات وبحوث محلية بنَتْ شبكة علاقات واسعة على مستوى العالم مع مراكز التفكير المختلفة، وساهمت كل هذه الخبرات في تطوير مناهج ومعايير صناعة القرار في السياستَيْن الداخلية والخارجية، ولذلك لا يمكن اعتبار النجاحات التنموية الكبرى في الإمارات وليدة المصادفة أو الحظ الجيد، بل هي نتاج للتخطيط العميق الذي رسَّخته حكمة القيادة، وساهمت فيه جهود الخبراء ومراكز التفكير.

&

وقد أضحت اليوم تجربة التفكير الاستراتيجي وسيلةً أساسيةً لدعم صانع القرار في منطقة بالغة التَّشابُك والتعقيد، وفي عالم مُتَسارع التحولات النوعيّة والكميّة، إذ لم تعد كفاءة وقوة القرار مرتبطة بالإرادة السياسية فحسب، بل أصبحت مشروطة أيضاً بشبكة واسعة من الدوائر المتقاطعة التي ترصد حركة القوى والمؤشرات الاستراتيجية الوطنية والإقليمية والدولية، والتي يحتاج كل منها إلى خبراء ومتخصصين لمتابعتها وتقييمها وتوقع مآلاتها.

ولعلَّ من أهم القضايا التي تُطرَح حول دور مراكز التفكير هي تبعيَّة أو استقلال هذه المراكز، وفي هذا الصَّدد لا بُدَّ من التأكيد على أنه لا يمكن لأي مركز تفكير في أي دولة ألا ينتمي إلى دائرة مصالح معينة ينطلق من خلالها لتعريف مفهوم القوة، ويرصد تحولات القوة في العلاقات الدولية، بناء على هذا التعريف.

وليس دَوْرُ مراكز التفكير هو المصادقة على القائم من السياسات؛ فليست تلك مهمتها، وينطوي قيامها بهذا الدَّور على خداع لمتخذي القرار، بل يتحدد دورها بمراجعة هذه السياسات، وتوقُّع مخاطرها وفُرصها، والسعي دوماً لتحسينها وطرح بدائل لها؛ بما يُحقق المصالح العُليا للدولة، ويُحتِّم عليها هذا أنْ تُطوِّرَ من أدواتها، وأنْ تُراجع منهجيتَها بشكل دائم؛ لتكون قادرة على المساهمة في رسم السياسات العامة المحليَّة والخارجيَّة، وكذلك لتُواكِبَ التحولات التي تطرأ على اتجاهات القوة في العلاقات الدولية، وجَسْر المسافة بين القوة الفعلية والقوة الكامنة.

والمراكز التي تمثل إضافة نوعية، هي تلك التي تحاول استيعاب التّجارب القائمة، وتقديم رؤية قائمة على المساهمة في صناعة السياسات بأحدث المنهجيات مع تكييفها بما يناسب طبيعة الدّولة والمنطقة. ومن أجل تحقيق هدف رفع كفاءة عملية صناعة السياسات، ينبغي على مركز التفكير أن يرسم لنفسه أهدافاً متوازية تتمثل في تقديم تحليلات استراتيجية وأوراق سياسات، وأوراق تقييم للمخاطر تخدم صناع القرار، بما يساعد على فهم دقيق وواقعي لمصالح وأمن الدولة، وكذلك الاضطلاع بمهمة استشراف مستقبل المنطقة واتجاهات السياسات الإقليمية والدولية، وتأثير المشاريع الجيوسياسية المختلفة فيها.

وتتزايد فعالية مراكز التفكير كلما انطلقت من البيئة الوطنية وخصوصياتها الذاتية للتفكير في القضايا والتحديات الاستراتيجية، دون أنْ يحول ذلك من الانفتاح على المحيط الدولي والاستفادة من كل الإمكانات المنهجية العالمية. فالتعاطي مع المشْهدَيْن الدولي والإقليمي في إطار دراسات أكاديميّة غير مُتّصلة بالواقع المباشر، أو عدم القدرة على تحويلِ هذه الدِّراسات إلى سِياسات تدعم متَّخذ القَرار في تفاعله مع الأحداث والتحولات لا يخدم عملية صنع السياسات العامة التي تتطلب مراجعة دائمة للأدوات والمنهجية للمحافظة على استمرار القدرة في دعم عملية اتخاذ القرار، والمركز الذي يتمكن من إنجاز ما سبق يكون قد وضع نفسه ضمن خانة الجيل الجديد من مراكز التفكير، والتي تسعى إلى جعل عملية التفكير ودعم صانع القرار أكثر منهجيةً وتجديداً وارتباطاً بالمتغيرات الواقعية ومآلاتها.

&