توفيق رباحي

الولايات المتحدة الأمريكية أمة عظيمة ومختلفة عن الجميع آخر علامة، لمن بقي في نفسه شك، تقرير مجلس الشيوخ حول أساليب التعذيب التي مارستها وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) غداة هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2011.


عظيمة هي الولايات المتحدة بالطرق الوحشية التي استعملتها في حق معتقلين مدنيين كثيرون منهم أبرياء لا صلة لهم بما نُسب لهم وبما أوقفوا من أجله.


أساليب استباحت كل شيء ولا يخطر على بال عاقل أن أمة متحضرة، شعارها الديمقراطية والحقوق والحريات، ترتكبها لمجرد الشبهة، وتطلق العنان لضباط مخابراتها وتمنحهم الإمكانات اللازمة ليعيثوا في القارات الخمس فساداً بلا حسيب أو رقيب حتى جلبوا العار لأنفسهم وبلدهم. هذا الوجه البشع للعظمة والجرأة، أو عندما تتحول العظمة إلى طغيان.


هناك وجه جميل، لأن الأشياء الجميلة تبرز من ركام البشاعة والقبح. أمريكا صاحبة الوجه الأول البشع هي ذاتها قادرة بلا خوف على مساءلة نفسها وتحديد المسؤوليات وتصحيح مسارها.


الولايات المتحدة، المجتمع السياسي والأمني والمدني فيها، هي من قررت التحقيق في ممارسات وكالة الاستخبارات المركزية بعد هجمات 2001، وهي من قرر نشر التقرير الأسبوع الماضي على الرغم مما يحمله من أضرار محتملة على صورتها ومكانتها. وهي من أشارت بأصابع الاتهام إلى مكامن الخطأ.


صاحبة الفضل الأول في خروج التقرير للعلن، على الرغم من أنه «حُرِّر» قبل النشر، سيدة في الحادية والثمانين من عمرها، اسمها دايان فينشتاين، أقدم عضو في مجلس الشيوخ وأكثرهم تصلبا في المواقف وإثارة للانتباه والإعجاب.


سيدة من طراز أمريكا، وتليق كلتاهما بالأخرى، تستمد قوتها من جمهور الناخبين الذين أوصلوها إلى مجلس الشيوخ، ومن الصلاحيات والمسؤوليات التي خوّلها إياها الدستور الأمريكي.. لا من رئيس الدولة ولا من قائد جهاز المخابرات، ولا من ولاءات سياسية أو مناطقية مشبوهة. أمريكا أوفدت إلى العراق أولئك المعتوهين الذين ارتكبوا فظاعات سجن أبي غريب معتقدة أنهم سيسهمون في بناء العراق.


لكنها أعظم بأن كشفت هؤلاء وفضحتهم.


لا توجد أمة فوق الأرض بهذه العظمة.


فرنسا احتلت الجزائر 132 عاما، أراقت خلالها أنهاراً من دماء الجزائريين. واجهت خلالها مقاومة وعناداً ثم حربا ضروسا فكانت النتيجة ملايين الضحايا إلى أن تحقق الاستقلال في 1962.
إلى غاية اليوم، لا تجرؤ فرنسا على النظر في المرآة ومصارحة نفسها بحقيقة ما ارتكبت. إلى 1998 لم تجرؤ على تسمية ما حدث باسمه: ظلت تسميها حوادث الجزائر (وشمال إفريقيا).. 132عاما من الإذلال والتجبر والدماء والحديد والنار، هي مجرد «حوادث» من وجهة نظر فرنسا المؤسسات. لا توجد نذالة أكثر من هذه.
إلى 2015 ترفض فرنسا الإقرار بأنها مارست التعذيب بحق الجزائريين على نطاق واسع، في مختلف مناطق الجزائر وفي مختلف مراحل احتلالها لبلدهم. ناهيك عن الإقرار به والاعتذار عنه، ذلك قد نقترب منه بعد 132 سنة أخرى.


بقدر عظمة أمريكا وتصالحها مع نفسها، بقدر حقارتنا نحن وتضخم عُقـَدنا وعدائنا لأنفسنا.


سبب هذا الكلام أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ما كانت لترتكب ما ارتكبت من شناعة وبشاعة لولانا.


ألم تكن حكومتنا شريكة في التعذيب؟
ألم تحط «السجون الطائرة» في بلدان مثل المغرب ومصر وباكستان وتونس والأردن؟
ألم تتسابق مخابرات بلداننا في تقديم الخدمة لعملاء ومحطات سي آي إيه القريبة والبعيدة؟
أليست «الخدمة» المقصودة هنا هي المشاركة في التحقيق والتعذيب، أو توفير المعلومات التي تزيد من محن ومعاناة الموقوفين؟
ألم يهدد محققو سي آي إيه الموقوفين بالاعتراف أو «نأتيكم بمحققين من بلدانكم يعرفون كيف يستخرجون منكم المعلومة»؟
أمريكا تجرأت وتحملت مسؤولية ما اقترفت. وعندما قررت نشر التقرير الأسبوع الماضي، هي فعلت للأمريكيين ومن أجلهم، لكي يعلموا ويتعلموا. لكي لا تعيش أجيال منهم في ظلام التضليل والتدليس.


لكن ماذا عن الآخرين.. إسبانيا، بولندا، اثيوبيا، لاتفيا، بريطانيا، المجر، إيطاليا، باكستان وغيرها من الدول الشريكة في الجريمة المتكاملة الأركان المفتوحة على الأزمنة؟
ماذا عنا نحن؟ ألم تفعل حكوماتنا في بعضنا أسوأ مما فعلت سي آي إيه في معتقليها؟ أليست جرائم نظام القذافي في ليبيا وبن علي في تونس ومبارك في مصر وغيرهم في حق سجناء من مواطنيهم، أسوأ؟ ما نصيبنا من المسؤولية؟ وما حجم حقنا في الاطلاع والعلم والتعلم؟ من سيحاسب حكوماتنا؟ مَن ينتزع لضحايانا حقوقهم من حكوماتنا أولاً؟
تقرير مجلس الشيوخ يحمل بكل تأكيد تفاصيل عن دور الحكومات العربية والإسلامية في انتشار التعذيب، اختار المسؤولون حجبها ليس حفاظا على مشاعرنا أو احتراماً لها، بل حفاظا على مصالح بلادهم مع هذه الدول، خصوصا و»الحرب» لم تضع أوزارها بعد.


أبوغريب وتقرير التعذيب وويكيليكس وما يشبهها من ملفات كلها ثمار عمل وذهنية أمريكية ثم غربية بالدرجة الثانية. لا نصيب للآخرين، لنقل العرب والمسلمين فيها.. مجرد متفرجين عاجزين.


لا نصيب لنا في شيء لأننا لسنا في عظمة أمريكا ولا نجرؤ على الحلم بالوصول إليها.