محمد المزيني

قال لي صاحبي وهو يحاورني قبل عقدين من الزمان: ليس للمرأة سوى بيتها وأولادها، ومن عفافها وسلامة دينها أن تتورع عن كل ما يختص به الرجال، بما في ذلك قيادة السيارة، والبيع والشراء في الأماكن العامة.

&

لم يكن يتوارد إلى أذهاننا اختلاطها بالرجال في مقاعد الدراسة أو ما شابهه، فذاك لم يكن -أصلاً وفصلاً- يطرق أذهاننا بتاتاً، واحمرت وجنتاه وتجعد وجهه وأربد وأزبد عندما نقلت له رأياً شرعياً في الحجاب أستريح له، فرماني بحجارة التسفيه، ووصمني بالعلمنة والفسق، مع أني -حينها- قد سقت له كل الدلائل الشرعية الواردة في ذلك، فنفاها بلا تريث أو تمحيص، مضت بنا الأعوام فالتقيته على أرصفة العابرين في لندن، وكان برفقته امرأة تضع على رأسها شالاً خفيفاً لا يستر شعرها، وترتدي بنطال جينز وقميصاً فضفاضاً، لم أكن لأتجاهله بعد كل هذا الزمن الذي فصلتنا فيه الظروف بعضنا عن بعض، كان سلامنا حاراً وحميماً، ثم عرَّفني على زوجته قائلاً: أم فلان. ترددتُ في المصافحة فسبقتني بيدها وابتسامة تملأ وجهها، أمام كل هذا التردد والإحراج وحالة التيه التي أرتكس بها بدوت متخلفاً.

&

أخذني صاحبي لتناول قهوة الصباح في أجواء لندنية مفعمة بالبرودة مبللة بالمطر، حدثني عن دراسته وجامعته، وعن زوجته التي تدرس في جامعة إنكليزية عريقة، بعيدة -إلى حد ما- عن المنزل الذي استأجره بالقرب من جامعته التي يدرس فيها، لذلك من أجل الوصول باكراً تضطر إلى قطع مسافة طويلة بسيارتها الخاصة، مستغنية عن خدمات القطارات الأرضية. تحدثنا عن كل شيء على مذاق القهوة واستشعار الدفء الذي بدأ يخالج عظامنا، وهو ما شجعني على تذكيره بآرائه القديمة المتطرفة، ضحك بقهقهة عالية، وكأنه يبدد ما ران على وجه زوجته من علامات سخرية، قال: لكل مقام مقال. وقد صدق صاحبي في عبارته الأخيرة، إذ التقيته أخيراً في الرياض -مصادفة- بصورة مختلفة، وقد استطالت لحيته وتلبد جسده بالشحم، وتغضن وجهه الذي بدا فاتراً انتزعت منه تلك البهجة اللندنية الدافئة، فسألته قائلاً: هل تغير المقال بتغير المقام، فأجابني على عجل: وأكثر. ثم تركني من دون استئذان برعونة وعدم اكتراث.

&

هذه صورة واقعية مكررة لنماذج تمر بنا يومياً، تحمل أكثر من وجه لكل مناسبة وكل مكان، حتى غدونا أمام بعضنا البعض بلا صدقية كافية عند التعبير عن آرائنا والإفصاح عن مبادئنا. همنا الوحيد ألا يقال عنا ما يسيء إلينا، في بلد معبأ بالأعين والآذان المترصدة، فأصبحت ممارساتنا مرهونة بإيقاع مجتمع تكبُر في عينيه الصغائر وتصغر فيهما الكبائر. أمام هذا التحفز الفضائحي والتنقيب في عورات الناس لتكون فاكهة لأحاديثنا، لا يسعنا أن نصم هؤلاء الناس المرهونين بمجتمع ضاق أفقه حتى عن رؤية الفضاء الفسيح بالكذابين والمنافقين، فهؤلاء الجبناء المساكين يتجملون ليروا كـ«أحسن ناس»، وهم يناضلون بكل ما أوتوا من حيلة؛ لدفع عار الفضيحة التي ستلحق بهم فيما لو مارسوا حياتهم بشكل طبيعي، كما يمارسونها خارج حدود الوطن. بعد ذلك نتخاطب ونتلاسن حول حجاب المرأة وغطائها وحدودهما، وهل يشملهما الوجه والكفين؟ ويحمى وطيس المعركة بين مؤيدين ومعارضين، والكل مسلح بالأدلة والبراهين، ومتشبث برأيه غير مقتنع، لكن من سنحت لهم الفرصة بالسفر شرقاً وغرباً سينسفون كل ذلك اللجج وراءهم ظهرياً، فقبل أن تجتاز الطائرة حدود الوطن، تطوى العباءات وتنحسر الأغطية عن الوجوه والأجساد، وتنثر المساحيق فوق الوجوه السافرة، وتعود الحياة بألوان طيف، ولو سألت أحدهم أو إحداهن عن الحجاب لبدوت أمامهم ساذجاً ومتخلفاً، لكنهم حينما يعودون إلى الوطن يستعيدون الأقنعة من داخل الأدراج، وكما تتم برمجة الجوالات وفق الشبكات المحلية تبرمج العقول وفق الطقوس المحلية أيضاً، ومع ذلك هم مؤمنون صادقون وفق الرؤية المكانية التي تفرض عليهم شريعتها، فكما قال صاحبنا: لكل مقام مقال.

&

لكن السؤال: لماذا لا يزال الناس يبحثون عن فتوى لكل شيء حتى العطاس؟ 30 عاماً قضيناها من أعمارنا ونحن متعلقون بقضية حجاب المرأة وعورتها، ومتى ظهر لنا شيخ يرى جواز كشف الوجه واليدين طار فريق منا فرحاً به وصفق له بحرارة، وفريق آخر سفَّهه وألَّب عليه، واتهمه في علمه وعرضه.

&

حقيقة، لسنا مجتمعاً «متزمتاً» إلى هذا الحد من التمظهر الديني المبالغ فيه، ومع ذلك نصر على ذلك؟ لم نعِ بعدُ أن بعض الدول من حولنا تدمر، والشعوب تنتهك كراماتها، والنساء تهتك أعراضهن والرجال يقتلون ظلماً وعدواناً، والنساء والأطفال يهجَّرون، كل ذلك يحدث باسم الدين، وعلى أيدي جماعات دينية تتبنى الأفكار المتطرفة ذاتها، في رؤيتهم للكون وللحياة وللمرأة أيضاً. ألم تروا كيف كانوا يتفاخرون بسبيهم من النساء، ويقايضون عليهن أمام الملأ؟ ألم نفهم الدرس بعدُ، ونحن نلتف بقماط ضيق، ندَّعي زوراً وبهتاناً أنه هذا هو ديننا، هل ديننا يسمح لنا بتغيير أخلاقنا بحسب الظروف والمواقف، أو ما نستطيع تسميته فقه الحاجة؟ هل ديننا يبيح للرجل استخدام فحولته؛ للاستقواء على المرأة والتعبير عنها كيفما يهوى؟ هل ديننا يقبل بكل موبقات «داعش» و«النصرة» في تطبيق شريعة القتل والوأد والسحل لكل المخالفين؟ هل ديننا يقف على حجاب المرأة، وثوب الرجل، بينما أخلاقنا تحتاج إلى إعادة صيانة وتهيئة؟ وأنا هنا أتحدى أن يؤتى بدليل، أو أمر إلهي يأمر الرجل بقمع المرأة والتحجير عليها، وسآتي بألف دليل على تسامح الله -سبحانه- ورسوله -صلى الله عليه وسلم- مع الإنسان، ولاسيما المرأة.

&

لماذا لا نقف بصدق مع أنفسنا، ونترك للإنسان حريته في التفكير والتبني في ما لا يخدش الحياء العام، سواءً أخرجت المرأة بحجاب أم بغيره؟ أقادت السيارة أم ذهبت مع سائق أجنبي؟ أعملت في مكان مختلط أم تورعت عن ذلك بالبقاء في منزلها لتربية أبنائها؟ لِمَ لا نترك للإنسان سواءً أكان ذكراً أم أنثى مادام قد اكتملت لديه شروط التكليف أن يجرب الحياة التي منحه الله إياها بنفسه من دون واسطة؟ أليس هو من سيحاسَب عن أوزاره؟ وإلا ما فائدة اختبارات الله للإنسان المحكوم عليه بالسجن المؤبد من ممارسة حياته؟

&

ألا يكفي أن نضع قوانين صارمة تحمي الإنسان -أي إنسان- من تعديات غيره عليه، أخشى ما أخشاه ألا تكون المسألة متعلقة بفتنة المرأة، بل بفتنة الأقنعة؟!
&