إياد أبو شقرا

الدور الناشط في مجال العلاقات العامة لمصلحة النظام السوري، الذي لعبه الوزير اللبناني السابق ميشال سماحة حتى توقيفه بتهمة التآمر لإحداث تفجيرات في لبنان بالتنسيق مع علي مملوك، أحد أركان المنظومة الأمنية لنظام دمشق، برز مرتين أمام متابعي شؤون سوريا: المرة الأولى، الظهور العلني التنسيقي في باريس في آخر زيارة رسمية قام بها بشار الأسد لفرنسا. والمرة الثانية دوره المزعوم في ترتيب زيارة الكاتب والإعلامي الأميركي سيمور هيرش لأمين عام «حزب الله» السيد حسن نصر الله.


بعد هاتين المحطتين صار سماحة يوصف بأنه أحد رجال «حلقة العلاقات العامة التابعة لنظام بشار الأسد». غير أن تداعيات ما حدث بالنسبة للمحنة السورية على المستوى الدولي أكدت بضع حقائق أخرى مهمة:
- الأولى أن النظام السوري «صندوق بريد» و«متعهد مهام خاصة» لعدة أطراف دولية يخدمها لقاء مساعدته على تحقيق غايته الوحيدة وهي غاية البقاء.. مهما كان الثمن.


- الثانية أن نظام دمشق، تحديدا في عهد حافظ الأسد، كان يدرك أولويات البقاء ويلم بمقتضيات المناورة وتحاشي قطع الرجعة مع من يستفيد من دعمهم له أو صمتهم عليه. وبالتالي، حرص على المحافظة على «صداقاته» العربية إقليميا، وإبراز شخصيات سنّية في الحكومة والجيش على الرغم من تحالفه الاستراتيجي الضمني مع إيران الخمينية.


- الثالثة أن حافظ الأسد في علاقاته السياسية في عواصم القرار الكبرى ما كان يعتمد على الطواقم الدبلوماسية العادية وقنواتها الروتينية - كما ظهر في تسريبات «ويكيليكس» - بل على شخصيات يرتبط معها بعلاقات شخصية ومصلحية، تبادل النظام الخدمات في مجالات وعلى مستويات أكثر حساسية وعمقا مما تستطيع البعثات الرسمية العادية إنجازه. وبالفعل، جنّد النظام منذ عهد الأسد الأب زمرا من رجال الأعمال والمتموّلين السوريين المهاجرين الكبار في أميركا وأوروبا، لا سيما الذين ظلت لهم مصالح داخل سوريا يحرصون عليها، وذلك ليفتحوا له الأبواب على أعلى المستويات، وينفقوا الأموال لشراء تعاون الأكاديميين ومؤسسات العلاقات العامة تحت مختلف المسميات والأدوار.


- الرابعة أن إيران تتولّى اليوم زمام نظام الأسد الابن. وكان قد اتضح بعد 2005 مع سحب القوات السورية من لبنان، في أعقاب تصفية رفيق الحريري، أن ثمة «مؤسسة تحتية أمنية» أسّست وطوّرت في سوريا ولبنان مرجعيتها الحقيقية طهران، وهي التي تحكم البلدين فعليا. وبالتالي، فإن نظام الأسد الابن كان المستفيد الأكبر من قرار باراك أوباما الانفتاح على طهران والتحالف معها إقليميا، ومن جعل أوباما الإسلام السني الجهادي و«التكفيري» غريمه الأول في المنطقة. والمفارقة هنا أن الإسلام السياسي السنّي المتشدّد ما كان في يوم من الأيام عائقا في سبيل المصالح الأميركية في المنطقة، بل العكس هو الصحيح طيلة حقبة «الحرب الباردة» مع الاتحاد السوفياتي.
- الخامسة هي أن واشنطن تعرف الكثير عن دور دمشق الأسد وطهران الخمينية في تهريب «الجهاديين» إلى داخل العراق لمناوشة القوات الأميركية هناك بعد غزو 2003، وذلك بهدف التعجيل بمغادرتها الأراضي العراقية، وهذا بالضبط ما حصل. وبعدما انتهى دور هؤلاء استخدمتهم طهران ودمشق «فزاعة» لأميركا والغرب، وها هم اليوم عبر «داعش» وبقايا «القاعدة» الوسيلة المثلى لكسب الدعم الغربي، ودخول العاصمتين «الممانعتين» تحت المظلة الأميركية الإقليمية في «الحرب على الإرهاب التكفيري».


كل هذه الحقائق تشكل الخلفية اللازمة لفهم «خطة ستافان دي ميستورا» القائمة على مبدأ «تجميد» المواجهات العسكرية في النقاط السورية الساخنة لتسهيل العملية التفاوضية. «التجميد» الذي تنطوي عليه الخطة هو في الواقع ترجمة على مستوى أعلى لنهج «المصالحات» الموضعية التي اعتمدها نظام الأسد مع المناطق والضواحي والأحياء التي كان يحاصرها بالتجويع بعدما تستعصي عليه ميدانيا. ثم إن فكرة «التجميد» من بنات أفكار إعلامي أميركي – إيراني مقرّب جدا من «حزب الله» وبشار الأسد شخصيا، وهو الموكّل بملف سوريا في منظمة «التحاور الإنساني» الدولية التي تتلقى الدعم من بعض الحكومات الأوروبية المهتمة بالتحاور والتفاوض والسلام وعلى رأسها سويسرا والنرويج.


ومن الواضح اليوم أن النظام بعدما نجح، بفضل الدعمين الروسي والإيراني، في تحويل الصراع في سوريا من ثورة شعبية سلمية إلى حرب أهلية وتشريد ومعاناة إنسانية، حرّك أدواته وعملاءه ووكلاء علاقاته العامة في أميركا وأوروبا لطرح الأمر برمّته من زاويتين «إنسانيتين» هما: وقف المعاناة الإنسانية، ومكافحة التطرّف «التكفيري» الذي يهدّد الأقليات.. وفي هذا الاتجاه عُقد مؤتمر «الدفاع عن مسيحيي الشرق» في واشنطن أخيرا برعاية وتمويل من رجال أعمال وناشطين مسيحيين من أصحاب المصالح والصلات مع الأسد وطهران.


المطلعون على خلفيات مهمة دي ميستورا يشيرون أيضا إلى أسماء يصفون أصحابها بـ«مطبخ» مبادرته، بينهم أكاديميون أميركيون وأوروبيون وإسرائيليون، ورجال أعمال وعملاء نظام سوريون، وخبراء أميركيون ولبنانيون في تكتيكات التفاوض. ومن الدراسات المهمة التي شكلت أرضية مفيدة لهذه المبادرة وغيرها التقرير الذي أعده مركز بلفر للعلوم والعلاقات الدولية في معهد جون إف كيندي للدراسات الحكومية بجامعة هارفارد، بالتعاون مع جامعة ترينيتي - تكساس والمعهد النرويجي للعلاقات الدولية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2013، تحت عنوان «العقبات التي تعترض حل الأزمة السورية». أما القاسم المشترك بين معدّي التقرير - منهم البروفسور الأميركي ديفيد ليش القريب جدا من بشار الأسد، والبروفسور الإسرائيلي إيال زيسر الذي يتهمه البعض بـ«الصديق الفخري» للرئيس السوري في إسرائيل - فهو تعاطفهم مع النظام وتشكيكهم في قدرة المعارضة ونيّاتها، وبالذات التيار الإسلامي فيها، وتحذيرهم من المبالغة في «تبسيط» هذه الأزمة «المعقّدة».


هذه هي خلفية خطة دي ميستورا..
ولكن لا بد من القول، في الختام، إن مثل هذه المبادرات ما كانت لتبصر النور لو كانت هناك قيادات عالمية تحترم حريات الشعوب، وكانت هناك مقاربات مبدئية عاجلة وناجعة للنزاع السوري بدلا من تحويل سوريا إلى «مصيدة».. والشعب إلى السوري إلى «طُعم» لاصطياد «داعشيي» العالم!