ملحة عبدالله

دائما تذهب إبداعاتنا لتكون ملهمة لمن يقدرون قيمة الإبداع، ويلتقطون حبيباته من بين الرمال ثم يغسلونها وينقونها لتصبح ماسا براقا يرقى بأممهم وباقتصادهم وبشخصياتهم المبدعة

&


في زماننا هذا وفي خضم الطفرة التكنولوجية والصناعية والمعمارية وفي زهو التكنولوجيا العالمية، نحلم بالإبداع ونتطلع إلى الابتكار لنرتقي إلى مستوى الأمم المُلهَمة كما كنا من ذي قبل. فهل هو حلم لا يناله إلا غيرنا في جميع أنحاء العالم دوننا!
سؤال محير ويظل بدون إجابة! تمر العصور مر السحاب، وينقضي الظلام وتشرق الشمس ثم تغيب مرة أخرى في ديمومة لا نهائية، ونحن قابعون ننتظر الإجابات. فهل لا يوجد لدينا مبدعون ولا مبتكرون؟ اطلعت أنا شخصيا على مشاريع إبداعية، ومخترعات علمية، ولكني للأسف وجدتها تذهب مع الريح على غرار عنوان الفيلم الأميركي!
ومما آلمني حقا أنني وجدت أن إحدى مؤسساتنا العملاقة للبحث العلمي والتكنولوجيا تقوم بالبحث في أدق دقائق التقنية وأساليب تطويرها، وحينما تساءلت عن إمكانية تصنيعها وجدت الإجابة بأنها تذهب للتصنيع في الخارج! فما الفائدة إذًا؟ فصناعة الابتكارات أو حتى تطويرها لا بد أن تتم في الداخل وليس في الخارج، لكي نصنع علماء مهرة للمستقبل، فالأيام القادمة لا تعترف إلا بالدول الصناعية والمنتجة. لماذا نهمش المبتكرين ونهمل أفكارهم؟! ألا نعلم أن أصل السنبلة من الحبة؟!
بلادنا لله الحمد في أوج زهوها الحضاري والاقتصادي، فإن لم نتوج هذا الزهو بالصناعة والابتكار، فلن نلحق بركب العالم المتقدم. فحينما كتب توماس فريدمان كتابه (العالم مسطح) وجدناه يستعرض العالم أمامه على رقعة حريرية في ظل التقدم الإلكتروني، ولم نجد الوطن العربي على خريطة هذا الكتاب، لكونه غير صناعي وغير منتج! فهل للقلاقل والحروب دورها في تأخر التقدم العلمي والابتكاري، لأن المجموع لا يأبه إلا بالحديث عن الحرب وعن الصراعات. وهل ابتكرت هذه الصراعات في وطننا العربي لنشتغل بها، ونجنح عن كل ما هو متقدم ومبتَكَر؟
هناك فئة تقول إن الحروب تنتج الإبداع، وقد يكون هذا جائزا وخاصة حينما رأينا العديد من المدارس الأدبية والفنية بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولكني أقول إن الحروب لا تأتي إلا بالخراب، وبتأخر الإبداع وإحباط المبدعين كما في وطننا العربي، فحفظ الله بلادنا دوما مستقرة. ولنتأمل ما أحدثته الحرب بإبداع الرائد السينمائي (ماري جورج جان ميلييس)، سينمائي فرنسي شهير ولد في 1861 وتوفي في 1938. والذي ابتكر الأساليب السردية في السينما. كان الرجل يعمل بعروض الحواة والخدع ويبهر زبائنه بما لديه من خدع وخفة يد ويستعين بزوجته في هذه العروض الترفيهية آنذاك. وفي إحدى جولاته شاهد ما نسميه بـ(صندوق الدنيا) وشاهد الرجل يحرك الذراع فتتعدد الصور وتتلاحق داخل هذا الصندوق وهو فن عربي بلا شك! وبما أن الرجل يعشق فك الأشياء وتركيبها وأيضا تصنيعها فقد صنع نموذجا لرجل حديدي بشكل مبهر وأهداه لأحد المتاحف، ولذلك قام بتركيب أسطوانة تحرك باليد كما في صندوق الدنيا إلا أنها أداة (تصوير بأوقات مختلفة)، ثم استعمل تقنيات عديدة مثل "الجامب كات" وهو من أوائل من استعمل أسلوب مضاعفة شكل الشخصيات في الفيلم، خاصية "الديزولف" (دخول صورة بصورة أخرى)، لكونه كان يهتم بتغيير الحقيقة في التصوير.


ميليس كان مخترعا مبتكرا للسينما، فبنى معملا صغيرا أنتج فيه أوائل الأفلام الأميركية، وأهمها رحلة إلى القمر 14 دقيقة، وكانت السينما آنذاك صامتة، إلا أن زوجته كانت تقول: كنا نلون الصور صورة صورة لكي تظهر ملونة. ثم قامت الحرب العالمية، فانصرف الناس عن كل شيء سوى الهم الأكبر (الحرب)، ولذلك ظل ميلييس قابعا جاثما في معمله لا يلوي على شيء. حتى حطم معمله، وباع خام أفلامه إلى صناع البلاستيك، ومن المضحك أنه يقول إنهم كانوا يستخدمونها في صناعة كعوب الأحذية النسائية. هكذا هي الحرب، وهكذا هو الاضطراب وعدم الاستقرار، يذهب بجواهر العقول إلى كعوب أحذية النساء، وهذا ما رأيناه في هذه الحكاية.


إذًا فالإبداع يصطدم بشيئين هامين وهما: الاستقرار، ورعاية الدولة وتنميتها لهذا الإبداع مهما بلغ حجمه وصفته. فالرجل استلهم السينما وتقنياتها -عبر مسميات لا أريد أن أشغل رؤوسكم بمصطلحاتها- من صندوق الدنيا، وهو فن من الفنون العربية حيث يدخل حامل الصندوق على ظهره وعادة ما يكون فقيرا، فيلتف الأطفال حوله يتابعون القصص التي يعرضها الصندوق العجيب فكانت مشاهد من الحكايات والقصص التراثية الشعبية القديمة، كقصة أبو زيد الهلالى سلامة، أو الأميرة ذات الهمة، أو عنترة بن شداد، أو شمشون ودليلة، أو الزير سالم، وغالبا ما يكون وعظيا وأخلاقيا. ولا يستخدم الأطفال إلا عينا واحدة في النظر إلى داخل الصندوق، ولذلك كان شعار ميلييس وجها تُلغى إحدى عينيه.


دائما تذهب إبداعاتنا لتكون ملهمة لمن يقدرون قيمة الإبداع، ويلتقطون حبيباته من بين الرمال ثم يغسلونها وينقونها لتصبح ماسا براقا يرقى بأممهم وباقتصادهم وبشخصياتهم المبدعة، ونحن لا نزال نهتم بجلب كل ما هو مستوفد حتى أصبحت الأمراض تحاصرنا على مستوى وطننا العربي، العالم الآن يذهب إلى المريخ، وكواكب الفضاء، والبحث الدائم عن أسرار الطاقة التي قال عنها الدكتور مصطفى محمود إنها تجري الآن أبحاثها في الدول المتقدمة محاطة بأشد الأسرار المخابراتية، لأن من امتلكها امتلك العالم بأسره، ونحن لا يشغلنا سوى إنشاء القصور الفارهة واستيراد العربات لتكتمل الصورة، والمحسوبية في المراكز والوجاهة في المجالس ليس إلا!
أعتقد أن حب تراب الوطن لا بد أن نوقد ناره الخامدة تحت الرماد، فمن كان غيورا على وطنه بين الأمم صنع من أجلها المعجزات. وكما قال الشاعر صلاح عبدالصبور:
ترى، ارتجفت شفاهُكَ
عندما أحسستَ طعمَ الرملِ والحصباءْ
بطعمِ الدَّمْعِ مبلولا
وماذا استطعمتْ شفتاك عند القبلة الأولى
وماذا قلتَ للرملِ الذي ثَرْثَرَ في خديك أو كفيك
حين انهرت تمسيحا وتقبيلا
وحين أَراقَ في عينيك شوقا كانَ مغلولا
ومد لعشقك المشبوبِ ثوبَ الرملِ محلولا
وبعد أن ارتوت شفتاك...
ويمضي حتى يقول:
وكان الدمعُ والضحكاتُ مختلطيْنِ في سِيماكْ
وكنت تَبُثُّ، ثمَّ تعيدُ لفظَ الحبِّ مذهولا
فهل وجدنا إجابة على ما طرحناه من تساؤلات؟ أعتقد أنه لم يئن الأوان؛ وإنما نمزج الضحك بالدمعات كما قال عبدالصبور، أو كما قال الفنان أحمد زكي "اضحك الصورة تطلع حلوة"!
&