محمد الرميحي

منذ أن بدأت أسعار النفط والغاز بالتراجع، انطلقت الكثير من التحليلات التي تحاول تفسير هذا التراجع، بعضها ذهب إلى التفسير السياسي البحت، وربما انطلق هذا التفسير من مقالة الكاتب توماس فريدمان في «نيويورك تايمز» بتاريخ 14 أكتوبر (تشرين الأول) «حرب المضخات»، التي بنى تحليله فيها على افتراض وجود (اتفاق بين الولايات المتحدة، والمملكة العربية السعودية) من أجل خفض أسعار النفط والغاز (نكاية) بمكانين: موسكو وطهران!
على الرغم من أن الكاتب قال بوضوح: «لا أستطيع أن أجزم بأن هذا التحالف مقصود أو بالصدفة»، فإن فكرة ذلك المقال دارت دورة كاملة في الفضاء العربي الكتابي والتحليلي وتم تناقلها بكثافة، على أن الافتراض هو الحقيقة النهائية للظاهرة المعقدة، انخفاض الأسعار! تقريبا، كل من حاول الاقتراب من ذلك الموضوع في الأسابيع القليلة الأخيرة من الكتّاب العرب ذهب ذلك المذهب.


لديّ اعتراضان أساسيان على ذلك التحليل؛ الأول، أن هناك توجها شبه عام، يرى أن ما يكتب بالصحف الغربية، من محللين مطلعين أو غير ذلك، في شؤوننا، هو حقيقة لا يتوجب نكرانها، حتى لو كانت افتراضا محضا، وقد حدث ذلك تكرارا من خلال متابعتي عشرات المرات من الاستشهادات تلك؛ ما إن تنطلق فكرة في مقال حتى تستنطقها أقلام تابعة للتدليل بها على صحة ما يذهبون إليه! فهناك أناس يلتقطون ما يكتب في الضفة الأخرى من العالم على أنه عنوان الحقيقة، وهو في الغالب اجتهاد تحليلي، بل إن العقل العام العربي يرى أن الاستشهاد بمقولات من تلك الضفة، دليل على أنها مطلقة لا يأتيها الخلل من بين يديها ولا من خلفها. الاعتراض الثاني هو أن توماس فريدمان قدم تحليلا، ولم يكتب خبرا موثقا، بدليل أنه أولا تحفظ على إطلاقه، وثانيا لا الولايات المتحدة، ولا المملكة العربية السعودية اهتمت بالموضوع، لتنفيه بسبب عدم واقعيته.


انخفاض أسعار النفط، هو بسبب مباشر ناتج عن أمراض الدورة الاقتصادية الرأسمالية، هي في الحقيقة (نزلة برد) تصيب النظام الرأسمالي بين فترة وأخرى. تلك حقيقة أجمع عليها الاقتصاديون الثقاة، وفسرتها الكثير من الكتب التي تتعامل مع دورات النظام الرأسمالي، كما قدمت من الأفكار ما تقترحه علاجا لأمراض النظام. الدورة الرأسمالية لها علاقة بالذاكرة، وليس السياسة، فقد أصيب النظام الرأسمالي بعدد من نوبات البرد المختلفة الشدة، في معظم سنوات القرن العشرين، وكانت نوبات البرد متباعدة تحدث في قفزات في البداية، يقدرها البعض بربع قرن، أكثر قليلا أو أقل قليلا. ما حدث من تطور تقني واتصالي في العشرين سنة الأخيرة، وبسبب تباطؤ النظام الرأسمالي في تكييف نفسه على سوية التطور الاقتصادي التقني المتسارع، أصبحت (نوبات البرد) التي تصيب النظام متقاربة زمنا، بين خمس إلى ثماني سنوات.


نوبات البرد تلك تبدأ أعراضها بارتفاع في نسبة البطالة بالدول الصناعية، ومن ثم يعقبها انكماش اقتصادي، يؤدي إلى تباطؤ ملحوظ في الدورة الاقتصادية، يؤثر مباشرة في أسعار المواد الأولية، ومنها النفط والغاز. هناك عوامل مساعدة بالطبع؛ منها وفرة المعروض في السوق، ومنها التقليل من استهلاك المحروقات، ومن جهة ثالثة توسع في استخدام (الطاقة البديلة). كلها عوامل (اقتصادية) وليست سياسية.


قد يسأل البعض، ولكن الاقتصاد الصيني، على سبيل المثال، وإلى حد ما الاقتصاد الروسي، غير مبني بشكل واسع على قاعدة الاقتصاد الرأسمالي الحر. ذلك صحيح من حيث المظهر، إلا أن التعامل مع السوق العالمية، تصديرا واستيرادا، تعامل مع بيئة (رأسمالية) وكذلك الاقتصاد الإيراني بالطبع.


يذهب البعض، العاشق لنظرية (المؤامرة)، إلى تقبل أفكار توماس فريدمان ومن تبعه من المحللين على علاتها لأنها تجد هوى في نفسه، ولكن الحقيقة في مكان آخر تماما. بعض السياسيين، وقد كان مثالهم بعض الناطقين باسم الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وبعض عشاق المؤامرة من العرب ذهبوا ذلك المذهب، أي لوم الآخرين، وبالتحديد (دول الخليج) كعامل أساس في تراجع أسعار النفط! وهو أمر بدا لي مؤطرا؛ إما بجهل لميكانزمات الاقتصاد الرأسمالي، أو هو مصمم للاستهلاك المحلي للجمهور الداخلي، وللأنصار والمحازبين في الجوار والخارج، ومن ثم تعليق شماعة الضنك الاقتصادي على آخرين في نظام (المرامرة المحببة) تعمية للحقيقة والاصطياد في المياه العكرة! هناك خيط رمادي يتيح للبعض رمي الكرة على ساحة الآخرين، وتضخيم دورهم، وهو حق يراد به باطل في أن السبب الرئيس في انخفاض الأسعار هو تلازم تباطؤ الاقتصاد الرأسمالي بوفرة من المعروض من النفط، تلك حقيقة، يتبعها في رأي أولئك أن يصار إلى خفض المعروض من النفط في السوق العالمية، ويذهب التحليل الرمادي ليقول، ولأن المملكة العربية السعودية هي المنتج المرجح للنفط (هكذا يرون) فعليها يقع عبء تخفيض المعروض! ذلك أمر لا يستقيم مع المنطق، ولا مع المصالح (مرة أخرى ليست لها علاقة بالسياسة)؛ إذ يعني ذلك - لو حدث - خسارة الأسواق التقليدية للمنتج الخليجي، التي من المحتمل أن تنتعش مرة أخرى، فإن وجدت لها مصدرا آخر في الفترة الحالية يرفدها بحاجتها من الطاقة، فلن تعود إلى ممولها الأول! فليس لدول الخليج مصلحة في أن تأخذها الإشارات السياسية أو التهديد المبطن إلى مكان تقوم فيه بتحقيق خسارة بائنة لشعبها، فقط من أجل إرضاء الضغوط والتهويش السياسي.


في مكان آخر، هناك مؤشران عقلانيان يمكن أن يضافا إلى نفي فكرة المؤامرة، وهما أولا: أن روسيا، وهي واحدة من الخاسرين اليوم جراء انخفاض الطلب على المنتج الكربوهيدراتي، لم تلجأ في إعلامها إلى نظرية المؤامرة وتتهم آخرين بالضلوع في تراجع الأسعار، لأنها على علم بالدورة المرضية للاقتصاد الرأسمالي، وقد دخلت فيها في العشرين سنة الماضية. والمؤشر الثاني، فإن بورصات دول الخليج تنزف أمام أنظار العالم، ودول الخليج تحاول أن تتكيف مع الظرف الموضوعي في تراجع الأسعار عن طريق محاولة شد الحزام في المصروفات الحكومية، وهو دليل مادي على أنها من جهة ضحية (أعراض البرد) التي تصيب النظام الرأسمالي، وليست سببا فاعلا فيه، فكيف يمكن أن يؤذي الإنسان نفسه!
ولكن لكل غيمة داكنة خط فضي في داخلها، فانخفاض الأسعار يتيح إصلاح العلاقة المشتركة الإيرانية - الروسية - الخليجية، ويقدم لها على وجه التحديد هامشا للنظر في التعاون الفعال، بعيدا عن الاتهامات، وقد حدث ذلك من قبل في وقت حُكم السيد محمد خاتمي، الإصلاحي الممنوع من التحرك اليوم إلى خارج الجمهورية. وقتها، عمل خاتمي وفريقه مع الجهد الخليجي لتخفيف آثار التراجع السعري، ومدت جسور تفاهم عقلاني، أدى في النهاية إلى تجاوز الأزمة بأقل الأضرار، كما أدى إلى تراجع حدة الصراع في ملفات أخرى. اليوم يمكن لثلاثية: الخليج - طهران - موسكو، أن تتعاون أولا لإطفاء الحرائق المشتعلة جراء التنافس المؤدي إلى الخراب من جهة على طول جبهة عريضة في الشرق الأوسط، وتحقيق مصالح مرسلة من جهة أخرى، يحتاج ذلك إلى التفكير الجدي في مصالح الناس العاديين، الذين هم من سيعاني في نهاية المطاف تلك الآثار السلبية للمرض الرأسمالي.


آخر الكلام
قتل عدد ضخم من الأطفال بمدرسة في باكستان، عمل إجرامي لا يحتمل التوصيف بغير ذلك. ما نشهد هو عمليات إجرام لمجموعة من المجرمين، من يساندهم ويبرر أفعالهم فهو منهم.