عبدالله بن بجاد العتيبي

مع استمرار جرائم التنظيمات والجماعات والأحزاب الإرهابية، سواء منها أحزاب وجماعات الإسلام السياسي، أم تنظيمات العنف الديني في مصر وسوريا ولبنان والعراق واليمن؛ فقد تداولت وسائل الإعلام الأسبوع الماضي عدة جرائم جديدة.


أكبر هذه الجرائم حدثت في باكستان، وذلك باستهداف حركة طالبان باكستان لمدرسة وقتلها الشنيع لما يقارب الـ150 طفلا بريئا، وهي حادثة تعبّر عن أن كل الدول الإسلامية هي دولٌ مستهدفة بالإرهاب، وكذلك احتجاز رجل دينٍ شيعي لرهائن في مقهى في مدينة سيدني الأسترالية التي تنتمي للفضاء الحضاري الغربي، بما يرمز لاستهداف الدول الغربية بالإرهاب.


إن هذه الجرائم هي مجرد أمثلة سريعة على تفشي ظاهرة الإرهاب، وأنها ظاهرة لا تعرف الحدود، لا تعرف الحدود الجيوسياسية، كما لا تعترف بالحدود الدينية، فظاهرة الإرهاب المعاصرة لا تنتمي لدينٍ من الأديان المعروفة، سماوية كانت أم غيرها، وهي وإن كانت لدى المسلمين أكثر من غيرهم فهو في هذه اللحظة التاريخية صحيحٌ، ولكنه لا ينطبق على التاريخ، حيث كان العديد من الأديان منخرطا في الإرهاب بشكلٍ أو بآخر، ولكن الآخرين اليوم إما أنجزوا القطيعة مع ذلك الماضي، وإما أن لديهم دولا قوية تمنع مثل هذه النوازع العنيفة والدموية، وإما أنهم في لحظة حضارية لا تسمح بتشكل مثل هذه الجماعات العنيفة.


إنها في طور توسعها وتفشيها المعاصر، وبخاصة في منطقة الشرق الأوسط، إنما تمثل خليطا من خطاباتٍ دينية تراثية قديمة وخطابات جماعات الإسلام السياسي والآيديولوجيات اليسارية التي تأثرت بها تلك الخطابات على مستوى المفاهيم، كما على مستوى التنظيم، بالإضافة إلى عودة الحضور والتوهج إلى مكونات الهوية الأكثر قدما وتشددا، كالطائفية والمذهبية والعرقية والقبلية.


الآيديولوجيا والأموال والتنظيمات السرية 3 عناصر تشكل العصب الأساسي لهذه الجماعات، أما الآيديولوجيا فمواجهتها مهمة الجميع دولا ونخبا، مجتمعاتٍ وشعوبا، وأما الأموال فهي مهمة الدول بالدرجة الأولى، بحيث لو قطع التمويل عن الإرهابيين لضعفت تنظيماتهم وتضاءلت، والتمويل كما هو معلومٌ يأتي من دولٍ ويأتي أيضا من بعض الموسرين المؤيدين لتلك التنظيمات، وتتكفل بجمعه التنظيمات السرية تحت أغطية متعددة، ومكافحة وفضح التنظيمات السرية مهمة الدول بالدرجة الأولى كذلك، وإن كان ذلك لا يمنع من مشاركة النخب والمجتمعات والأفراد في فضح أي من هذين العنصرين.


إن الذي يضمن بقاء العناصر الـ3 مشتعلة وخطرة ومستمرة في استقطاب الأتباع وتهييج الشباب هو التحريض، والتحريض يأخذ أشكالا متعددة على مستوى الخطاب والمفاهيم، كما على مستوى الأدوات والوسائل، أما على مستوى الخطاب فهو يعتمد على مفاهيم آيديولوجية مغلقة ويقينية ترفض النسبية وتمجد القطعية في كل مسائل الاجتهاد والخلاف؛ من المسائل الإيمانية الكبرى إلى الاجتهادات الفقهية، وهذه المفاهيم مثل مفهوم «التكفير» ومفهوم «الحاكمية» ومفهوم «الجاهلية» وغيرها تغذي هذه القطعية وتوصلها لمرحلة ضرورة الإقصاء والنبذ التي تنتهي عند تحريكها عمليا بالتحريض إلى العنف والقتل والدماء.


هذه المفاهيم تتم تغذية الإنسان بها على مراحل، منها مناهج التعليم العام والمحاضن التربوية المرافقة للعملية التربوية، ومنها المساجد والخطب وغيرها، ولكن كيف يتمّ بناء الأجواء التي تحركها واقعيا؟ إنها تتمّ عبر التحريض؛ وذلك من خلال ضخٍّ متواصلٍ لصناعة السخط العام في الدول والمجتمعات والشعوب؛ سخطٌ على الدولة، وسخطٌ على الحكومة، وسخطٌ على التيارات الفكرية المخالفة، وسخطٌ على الأنظمة الدولية، وسخطٌ على الخدمات المحلية، إنه سخطٌ شاملٌ يتمّ تفعيله بعناية حتى يسهل خميرة صناعة الإرهابي وتجنيده حتى يتم تحويله من إنسان إلى وحشٍ بلا إنسانية.


صحيحٌ أن في واقع كل الدول ما يبعث على عدم الرضا أو التذمر من بعض الخدمات، ولكن صحيح أيضا أن تحويل ذلك كله لصناعة سخطٍ عام هو نتاج مدروسٌ ومنهجٌ متبعٌ لدى جماعات الإسلام السياسي ونسلها من جماعات العنف الديني، ولإيضاح هذا السياق نعيد التذكير بما تم نقله سابقا في هذه المساحة، ألا وهو ما قاله سيد قطب في مقالة له بعنوان «مدارس للسخط» في مجلة الرسالة العدد 651 بتاريخ 30 سبتمبر (أيلول) 1946: «أما أنا فسأظل ساخطا»، و«إنه لو وُكل إليّ الأمر لأنشأت ضعف هذه المدارس التي تنشئها الدولة لأعلم فيها الشعب شيئا واحدا هو السخط. لو وكل إليّ الأمر لأنشأت مدرسة للسخط على هذا الجيل من رجال السياسة... ومدرسة للسخط على أولئك الكتّاب والصحافيين الذين يقال عنهم إنهم قادة الرأي في البلاد... ومدرسة للسخط على أولئك الوزراء».


إن خطاب جماعات الإسلام السياسي، سنية كانت أم شيعية، يعتمد في كثيرٍ من عمله على نجاحه في صناعة السخط ونشره بين الناس بأكبر قدرٍ ممكن، وحين ينظر المراقب لما تصنعه هذه الجماعات اليوم في كثيرٍ من الدول العربية والإسلامية، بل وكثيرٍ من دول العالم التي تعمل فيها جهرة أو خفية، يجد أن هذه الصناعة تدار بتخطيطٍ وعملٍ دؤوب.


كان هذا على مستوى الخطاب والتأثير العام الذي نما معه تطوير في الأدوات والأساليب والوسائل، فقد تم استخدام الفتوى السياسية أداة عملية لنشر السخط الذي وصل للإفتاء بالقتل، كما هي فتاوى الإخواني العتيد المطلوب أخيرا للشرطة الدولية (الإنتربول) يوسف القرضاوي، وبالذات بعد ما كان يعرف بالربيع العربي المشؤوم، ومن يرصد الفتاوى التي يراد منها صناعة السخط يستطيع استحضار الكثير من الأمثلة المعبرة في هذا السياق.


وفي الأساليب تمّ تطوير التحريض من الأعمال الأدبية كالقصة والشعر والرواية، إلى الأناشيد والبيانات والمقاطع المصورة، وصولا إلى ألعاب الفيديو الموجهة للأطفال، أما في الوسائل فقد تمّ تطويرها عبر الزمن من درسٍ في مسجدٍ أو حصة في مدرسة إلى قنواتٍ فضائية بالكامل أو برامج في قنواتٍ مشهورة، وإنشاء مواقع إلكترونية ضخمة، وصولا إلى مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات التواصل عبر وسائل الاتصال الحديثة.


لقد أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي كموقع «تويتر» على سبيل المثال مرتعا للتحريض اليومي والمتواصل من قبل رموزٍ معروفة قبله، ومن قبل بعض الذين نبتت شهرتهم من خلاله وجربوا المشاركة في صناعة السخط مرارا، وبخاصة أنها أكسبتهم شعبوية ولم تجر عليهم تبعات قانونية فاستمرأوا الأمر.


أخيرا، إن عمر التحريض طويل طول عمر جماعات الإسلام السياسي، وإن صناعة السخط هي واحدة من أهم ما يمنحه فعلا وتأثيرا، وما لم يتمّ القضاء على التحريض وعلى صناعة السخط فسيستمر الإرهاب أطول مما يتوقع أحد.