عادل إبراهيم حمد

&

أعلن حزب المؤتمر الشعبي بعبارات واضحة لا لبس فيها ولا غموض أو لجلجة رفضه لما تقوم به داعش وبوكو حرام وشباب المجاهدين.. وجد الإعلان اهتماماً خاصاً إذ تكمن في الإعلان الرافض لهذه التنظيمات الإسلامية المتطرفة أهمية استثنائية، لأن الرفض جاء من حزب ذي مرجعية إسلامية؛ فقد ظل الإسلاميون يتحفظون كثيراً ولزمان طويل في إدانة العنف الصادر عن المتطرفين الإسلاميين بدعوى قربهم النسبي للإسلام . وخوفاً من حالة تبادل الاتهامات بين المسلمين التي تفرح أعداء الإسلام حسب رأي الإسلاميين، بل ويجهد الإسلاميون أنفسهم في تبرير عنف المتطرفين فيعزونه للظلم الواقع على المسلمين في فلسطين أو للاستفزاز الذي يحسه الشباب الغيور على دينه وهو يرى العراة في البلاجات أو السكارى في البارات وغير ذلك من منكرات لا يرضاها الدين. وهكذا لم تجد تفجيرات جزيرة بالي الإندونيسية رفضاً من الإسلاميين رغم وقوع ضحايا أبرياء جلهم من السواح الأستراليين، وظل تبريرهم الخفي عدم خذلان أخيهم في الدين أبوبكر باعشير الذي رأى في الجزيرة السياحية منكرات غيرها بيده. وبذات المنطق مر حادث الهجوم على سواح في الأقصر المصرية. ولم يرفض الإسلاميون إن لم يكونوا قد رحبوا بتفجير السفارة الأميركية في نيروبي الذي أودى بحياة اثني عشر أميركياً وأوقع أكثر من مئتي قتيل من الكينيين تصادف وجودهم قرب موقع الانفجار. وتعددت حوادث المتطرفين، فهاجم منتسبون للقاعدة القنصلية الأميركية في جدة وقتلوا مدنيين أبرياء بينهم مسلم، وفجر شباب المجاهدين الصوماليين مركزاً تجارياً في نيروبي وراح ضحية التفجير عدد كبير من المتسوقين الذين لا تعرف القنابل ديانتهم وجنسياتهم وانتماءاتهم. ومع تعدد حالات العنف الذي تأباه الفطرة السليمة بدا الاكتفاء بالتبرير أو الركون للسكوت موقفاً متبلداً. وبدا الإسلاميون كأفراد أو تنظيمات متخلفين وسط بقية المسلمين الذين يرفضون بلا تردد هذه الأفعال الممقوتة.


لم يفطن المفكرون الإسلاميون إلى الخطر الذي يبطنه تبرير العنف العشوائي أو السكوت عليه إلا بعد أن وجه المتطرفون عنفهم إلى المجتمعات المسلمة نفسها بعد تعديل طفيف في الفكرة، فبعد أن كان هجومهم يستهدف أعداء الإسلام بفهمهم، تحور إلى هجوم يستهدف الحكومات الموالية لأعداء الإسلام وزعزعة استقرار مجتمعاتها باستهدافها في الأسواق والقطارات والمدارس لترتفع وتيرة العجب والأسف والقلق. وجماعات التطرف تستهدف باسم الدين حفل عرس في عمان أو سوقاً في بغداد ومنتجعاً في المغرب بل ومسجداً في السودان وتتعدد الأمثلة.. تطور الأمر بظهور لافت لتنظيمات برنامجها الأوحد هو العنف الدموي أبرزها الشباب المجاهدون وبوكو حرام ثم داعش، ويبدو أن حزب المؤتمر الشعبي قد أحس بخطر الصمت عليه إذا ظل يمارس السلبية تجاه تنظيمات تجد الرفض من المسلم ذي الفطرة السليمة فسارع إلى إعلانه الرافض الصريح ليعاكس هذه المرة التيار التقليدي الذي ظلت التنظيمات الإسلامية تسبح في اتجاهه، فتبرأ المؤتمر الشعبي مما تفعله التنظيمات المتطرفة وحملها مسؤولية تشويه صورة الإسلام.
لا بد من الوقوف عند خصوصية لهذا الحزب، هي أنه الحزب الذي يقوده المفكر الإسلامي المعروف حسن الترابي، وهو مفكر متقدم نسبياً على أقرانه لكنه ظل لزمان طويل مكبلاً بطموحات سياسية جعلته توفيقياً في بعض الأحيان وانتهازياً في أخرى حتى لا تتعارض آراؤه الفكرية مع طموحاته السياسية فتلجلج كثيراً في موقفه من الديمقراطية بل ومن التنظيمات المتطرفة التي يرفضها اليوم. ومع ذلك فهو الأكثر تأهيلاً لطرح آراء فكرية متقدمة ما دام قد تحرر من قيود الطموح السياسي بعد أن تقدم به العمر وأصبح أقرب إلى المفكر منه إلى السياسي، تعينه على ذلك جرأة محمودة وشجاعة فكرية عرف بها في الفترة الأخيرة وجرت عليه هجوماً شديداً من الدعاة التقليديين.. وعليه ينتظر أن يتوغل الترابي في الساحة الفكرية غير مكتف بهذا الموقف من التنظيمات المتطرفة، حيث إن موقف حزب المؤتمر الشعبي المعلن -وعلى أهميته- لا يكتمل ما لم يعالج تشوهاً يصيب الإسلام في ميدان آخر غير العنف بل قد يكون مصدر العنف وجذره، وأعنى موقف الإسلام السياسي المزدوج من الحرية حيث يطال المسلمين اتهام بالانتهازية حين يمارسون حقهم كاملاً في الحرية في بلاد الأكثريات المسيحية فيبنون المساجد ويحتفلون بافتتاح المراكز الإسلامية ويبشرون بدينهم ويحتفون بالمهتدين، بينما يحجرون في بلدانهم على الأقليات غير المسلمة حقوقها في ممارسة شعائرها وبناء معابدها ويشهرون حد الردة في وجه من يتحول إلى أي من ديانات الأقليات.. يزيد من المفارقة في هذه المقارنة أن دول الأغلبية المسيحية تملك من القوة المادية ما يجعلها أكثر مقدرة على قمع وقهر الأقليات المسلمة لكنها لا تفعل الشيء الذي يضعها في مرتبة إنسانية أرقى.. هذا الوضع المشوه يحتاج لثورة فكرية قد ينهض لها زعيم حزب المؤتمر الشعبي الذي يحقق في الفتوحات الفكرية الجديدة ما لم يتحقق له في السياسة.


قد يتساءل سائل عن أهمية ما يقوله الترابي عن الحرية والمرأة والموسيقى والنحت ما دامت هذه الآراء قد صدرت سلفاً عن مفكرين غير إسلاميين وأن المجتمعات المسلمة تتعايش مع المعارض والمجتمع المختلط وتستمع للموسيقى وتقتني الصور واللوحات.. أهمية ما ينتظر من المفكر الإسلامي الترابي هي إلحاق الفكر الإسلامي بالمجتمع المسلم المتقدم حتى يتحقق قدر أكبر من الانسجام الفكري فما زالت مجتمعات المسلمين تعاني من أفكار متزمتة تجعل كل معرض كتاب مصحوباً بزوبعة ولا يقام معرض للفنون التشكيلية إلا وتصحبه ضجة ولا مهرجان للموسيقى إلا وتطارده اللعنات وكأن علماء المسلمين لا يرون طهر المجتمع إلا إذا خلا من أية صورة ونغمة ولوحة. هذا الفهم لا يزول إلا بثورة فكرية في ساحة الفكر الإسلامي التقليدي، وقد يكون دكتور الترابي الأكثر تأهيلاً لكسر حالة الجمود التي طالت في هذا الميدان، ولن يضير المجتمع المسلم وصول الحركات الإسلامية المتأخر إلى المحطة بعد أن ظلت في كل مرة تصل المحطة بعد أن يغادرها القطار، بل في ذلك نفع كثير حين تزول المعيقات الفكرية التي تجاوزها العصر.
&