عبدالحميد الأنصاري

طغى الإرهاب وبغى وتجاوز كل الثوابت الإنسانية والأخلاقية والدينية، وأصبح ضارياً فتاكاً، واخترق الحدود وصار "معولماً" يعربد ويفسد في الأرض، داس كل القيم وانتهك كل المقدسات وفعل كل المحرمات، والمحزن في الأمر ملاحظتان:
الأولى: أن من يقومون بهذه الأعمال مسلمون، وباسم الإسلام، والإسلام بريء منهم ومن أعمالهم، فهو رحمة للعالمين، ينسبون إلى ديننا عدوانهم وبغيهم، والله سبحان وتعالى لا يحب الفساد، فيفترون على الله تعالى كذباً، ألا بئس ما يفعلون!


والملاحظة الثانية: أن هؤلاء هم من مذهب الأكثرية "السنّة"، حتى الإيراني الداعشي الذي أرهب قلب سدني 16 ساعة، ظهر أنه كان رجل دين شيعياً ثم تسنن وبايع "داعش"! وهذا ما ينبغي الانتباه إليه ودراسته... لماذا إرهابيونا، كلهم أو معظمهم، من السنّة؟! أهو بسبب قصور في تعليم تصرف عليه دولنا الملايين، أخفق في التحصين، أم هو نتاج خطاب ديني تحريضي صور العالم "متآمراً" على المسلمين فزرع "كراهية" في نفوس غضة تحولت إلى سلوكيات عدوانية تريد الثأر من المجتمع والدولة والعالم، دفاعاً عن "كرامة مستباحة" كما يزعمون، أم هو ثمرة التوظيف السياسي الممنهج للدين من حكوماتنا ومعارضتنا السياسية الإسلامية طوال 6 عقود، بزعم أنها لا تطبق الشريعة؟!


لقد روعت باكستان كما روع العالم الإسلامي والدولي، تلك المجزرة الشائنة والبشعة التي قامت بها حركة "طالبان باكستان" بحق تلاميذ أبرياء في مدرسة، تمت تصفيتهم بدم بارد وهم جالسون على مقاعد الدراسة، قتلوا 148 تلميذاً بريئاً، انتقاماً من الجيش كما زعموا، وتم دفنهم بالزي المدرسي الأخضر الملطخ بالدماء وسط عويل الأمهات... ما أقساه من مشهد على النفوس! تلاميذ أبرياء، كيف طاوعتهم نفوسهم؟! الأطفال أحباب الله تعالى، كيف ارتكسوا ووصلوا إلى هذا الدرك؟! أإذا كانت لديك مظلمة مع حكومتك أو جيشك، تتجرد من إنسانيتك وتخرج من آدميتك وتستسهل الانتقام من أطفال أبرياء؟! ما هذا الجبن والخسة والدناءة؟!
لكن لا غرابة ولا عجب، فهذه الجماعات تُبرمَج منذ التنشئة الأولى على العنف والوحشية والكراهية، عبر مدارس تغذي الغرائز الأولية في أفرادها وتشحنهم بكمّ هائل من البغض تجاه من يخالفهم، ما أقبح تبريرهم "أردنا أن نجعلهم يشعرون بمعاناتنا"!


تعالوا نتتبع جذور هذا الفكر العدواني، إنها تمتد إلى تلك المدارس المنتشرة في باكستان وأفغانستان وبنغلادش بفضل إحسان الخيرين من أهل الخليج، فرخت الآلاف من المتطرفين الذين انتشروا في العالم، وشكلوا جماعات أيديولوجية عنيفة تتحدى شرعية الدولة، وتسعى للوصول إلى السلطة لتيقم دولتها الدينية بقوة السلاح، بدءاً بجماعة "الجامع الأحمر" التي أعلنت الجهاد فيما مضى على الحكومة الباكستانية "العلمانية"، وتوعدت بإطلاق 10 آلاف انتحاري وانتحارية من المدارس القرآنية، ولما حوصروا من الجيش هرب زعيمهم الذي كان يهدد ويتوعد في نقاب امرأة، ليتحصن الطلاب والطالبات في الجامع، تفضيلاً للموت على الهروب، مروراً بتلك الجماعة الإرهابية التي اغتالت الزعيمة الباكستانية بوتو أصغر، وأول رئيسة وزراء لدولة إسلامية، لأنها كانت من أشد الناس معارضة لمناهج تلك المدارس، وصولاً إلى "طالبان" الأفغان التي أقامت دولة دينية وأخضعت المجتمع لأيديولوجيتها بقوة السلاح، فحبست المرأة ومنعتها من العلم والعمل، وحرّمت الموسيقى والأغاني والتصوير والسينما والفضائيات وكل مظاهر الحضارة ووسائلها، ثم أصدرت مرسوماً بتحديد طول اللحية الشرعي وسلطت شرطة دينية (الأمر بالمعروف) تراقب الناس وتتدخل في خصوصياتهم، 5 سنوات عجاف في أجواء من الكآبة والبؤس والشقاء، جثمت على صدور الأفغان، حتى أذن الله بزوال دولة طالبان وهروب قادتها وضيوفها من القاعدة إلى أوكار الجبال.


ماذا تعلم هذه المدارس القرآنية؟ تقوم هذه المدارس المنتشرة كالفطر المسموم، باحتضان الأطفال منذ نعومة أظفارهم، تقدم لهم الزاد والمأوى، ثم تبرمجهم بثقافة تعصبية متطرفة، وتدربهم على الجهاد بهدف استعادة دولة الخلافة، تجرعهم الزاد التعصبي ومفاهيم مغلوطة عن: الجهاد والأمر بالمعروف والولاء والبراء والحاكمية، وتختار من آراء القدماء، أشدها تخلفاً ضد المرأة والأقليات، وتشحنهم بمعاداة الدولة باعتبارها "علمانية" وتخضع لإملاءات الكفار! وكل ذلك على أيدي معلمين متعصبين كارهين للحياة والأحياء، إنه إذاً "التعليم الملغوم" الذي أنتج هذه الجماعات العنيفة... ما العمل؟
المواجهة العسكرية– وحدها– لا تجدي، أميركا بجلالة قدرها، جاءت بكلها، وأزالت دولة طالبان وشردتهم ونكلت بهم وقتلت الكثيرين منهم ومن ضيوفهم (القاعدة) وصفّت زعيمها مؤخراً، لكنها على امتداد 14 عاماً لم تستطع تغيير عقلية طالبان ولا "القاعدة"، وها هي تأذن بالرحيل، و"طالبان" و"القاعدة" على حالهما! لقد بحت أصواتنا نستصرخ دولنا: التعليم التعليم، وما لم تعمل الحكومة الباكستانية على إدخال إصلاحات جذرية على مناهج تلك المدارس الدينية، فإن المآسي ستستمر!