خالد الحروب

خضعت تمظهرات الهويات الفلسطينية لتحولات عميقة في التاريخ المعاصر، في حقبة ما بعد الاستعمار الغربي للمنطقة، واستمرار السياق الاستعماريّ الصهيوني في فلسطين. وفي السياق الإقليميّ، تنافست هويات قومية حديثة تحيط بفلسطين على استبدال وَإعادة إنتاج مزيج الهويات المتبقية من الماضي البعيد والماضي القريب، نحو الهويات الإسلامية والعروبية والقَبَلية والإقليمية.

استنزفت النخب الحاكمة في الدول القومية الوليدة في الشرق الأوسط طاقاتها لتأسيس هُويّات وطنيّة متميّزة. وبعد عقود على نشوء الدول الوطنية العربية لم تتم بعد تسوية التوترات بين المركّبات المختلفة لهذه الهوية الموحدة المنشودة.

&


بعض تلك التوترات يجد صداه في عمليات تشكيل وإعادة تشكيل الهوية الفلسطينية. بدءاً من نهاية القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا، يمكن النظر إلى الجدال والتنافس والتصالح والصراع بين «القومي» و«الديني» كمسار تكاملي في صياغة الهوية الفلسطينية، وكجزء من عملية تدوين تاريخ هذه الهوية.

ورغم ذلك تبقى فكرتا «القومي» و«الديني» عاجزتين عن توفير فهم شامل لنشوء وتشكيل الهوية الفلسطينية بالمنظور التاريخي.

وعلى خلاف الحالات العربية الشرق أوسطية الأخرى، تجاوز السياق الاستعماري المتواصل في فلسطين الإطار الزمني للتجارب الاستعمارية الأخرى، بحضوره الشامل وبالجهاز التمييزي الوحشي المفروض على الفلسطينيين، هذا السياق ما زال يقوم بدور المصمم المطلق للهوية الفلسطينية وللواقع الفلسطيني، السياسي والاجتماعي والثقافي.

الرد الفلسطيني الذي لا ريب فيه لهذا السياق على امتداد القرن الأخير كان المقاومة. فكرة المقاومة أدت دوراً عظيماً في التأثير على مفهوم الفلسطينيين لذاتهم الجماعية، وفي خلق «فلسطينيتهم».

ويمكن تصور عبور الهوية الوطنية في العصر الحديث، وفي السياق الكولونيالي وما بعد الكولونيالي في مرحلتين: الأولى هي انتزاع «الوطنية» والتحرر من المستعمر، ثم انتزاع «المواطنة» من النظام السياسي في مرحلة الاستقلال. معنى ذلك أن التحرر من الاستعمار لا يجلب معه التحقق الكامل للهوية الوطنية، بل تخلصها من السيطرة الخارجية فقط، بينما لا تُنجز تماماً إلا من خلال تحقيق «المواطنة» في المرحلة الاستقلالية التالية.

ومن المهم مفهومياً كسر حصرية المقاومة بالكفاح المسلح. فإضافة إلى هذا الأخير فهي تتضمن الأفكار والآليات والممارسات والجهود التي تتوجه أساسا نحو رفض النظام الفوقي للاستعمار أو القوة الأجنبية المسيطرة والتمرد عليه والتخلص منه، وهذه كلها تشكل مع الزمن وتكرس الفعل المقاوم الواعي بالذات الجمعية ويصبح الالتزام بها، سواء عبر الممارسة المباشرة أو الإقرار بشرعيتها، هو المُعرف الأساسي لمعنى الانتماء لقوم ما.

وخلال مرحلة التحرر من الاستعمار، فإن المقاومة وتبعاً لتعقلها كمؤسس تكويني مرتبط بالهوية، تشتغل على عدة مستويات. الأول كونها تعمل على منح الشرعية وحجبها للأفكار والممارسات التي تنشأ تحت الحكم الكولونيالي. فمن يلتزم بالمقاومة وأهدافها ينتمي لـ«الجماعة الوطنية» ويتصف بـ«هويتها». والثاني كونها تصبح أحد أهم معايير التأثيم الفردي والجماعي بدءاً من الحد الأدنى وهو الشعور بالتقصير لعدم الانخراط فيها وممارستها، وصولاً إلى الحد الأعلى وهو الطرد من الهوية الوطنية في الحالات القصوى كالخيانة والتخابر مع العدو. والثالث أنها تعمل على شرعنة الفعل النظري والعملي وتعطيه رخصة مزاولة الحياة الاجتماعية، وينشأ تبعاً لذلك «الاقتصاد المقاوم» و«الفن المقاوم» و«الدين المقاوم».. وكأن أياً من هذه الأنشطة لن يتمتع بممارسة الشرعية الكاملة ما لم يرتبط بالمشروع «المقاوم».

تطورت مركزية المقاومة في سيرورة تشكل الهوية الفلسطينية ومرت بحقب متلاحقة، خاصة عقب بروز حركة «فتح» و«منظمة التحرير الفلسطينية» في ستينيات القرن الماضي، وشبه التماهي بين المقاومة والهوية، وظلت كذلك إلى توقيع اتفاق أوسلو. عندها توقفت المقاومة (كإطار جامع للهوية والفاعلية الفلسطينية) وانتقل الوضع الفلسطيني إلى الغموض الخطر. ومكمن الخطر في هذه الحقبة يتمثل في الوقوف في منتصف الطريق حيث أخرجت المقاومة ذاتها من المعركة ضد الاحتلال قبل إنهاء مهمتها الطبيعية، وهي التحرر والاستقلال، وقبل الانتقال إلى الدولة الحديثة الحاضنة للهوية الوطنية. أدى ذلك إلى بروز مشروعين متناقضين: المقاومة عند «حماس»، والحل السلمي عند «فتح»، وبذلك لم تعد المقاومة هي المشروع الناظم والجامع للفاعلية والهوية الفلسطينية. خلال الحقب الزمنية راكمت «فتح» و«حماس» رأسمالاً مقاومياً تم استنزافه في مشروعين غير متجانسين: المفاوضات، والأسلمة. رصيد فصائل منظمة التحرير مند الستينيات وحتى أوسلو، تم استنزافه في مشروع المفاوضات وبناء السلطة الفلسطينية. ورصيد «حماس» المقاومي تم استنزافه في مشروع الأسلمة المجتمعية. ومع نفاد الرصيد المقاومي بأكمله عند الطرفين، تنكشف المشروعات الخلافية وتصطدم ببعضها بعضا وتتحرك من دون إقناع وفي غياب غطاء المقاومة.
&