عبد الرحمن الحبيب

&
ما أشعله ظهور الشيخ الدكتور أحمد الغامدي برفقة زوجته وهي كاشفة وجهها بأحد البرامج التلفزيونية من جدل واسع وسجالات بالساحة السعودية خاصة مواقع التواصل الاجتماعي.. جعل غالبيتنا يتساءل بريبة: من وراءه بهذه الجراءة النادرة؟

الجراءة هنا اجتماعية، فما قام به الشيخ أحمد من الناحية الدينية يعتبر عاديا عند فقهاء الدين بالبلدان المسلمة خارج المملكة، فالأصل لديهم هو كشف المرأة لوجهها. أما في بلادنا فهناك مشايخ أجلاء خالفوا الشيخ الغامدي بطريقة هادئة باعتبارها مسألة خلافية دينيا، يرجحها طبيعة مجتمعنا المحافظ اجتماعيا..

إنما أعلى الأصوات فكانت المتعصبة التي لا تناقش الفكرة إلا في آخر الطرح، بادئة بالتشكيك بمآرب صاحبها وأن وراءها «مؤامرة»، ومشككة بالنوايا والتوقيت. فمن وراء أفكار الشيخ الغامدي؟ نعم، إنه التوقيت المصاحب للتغير الاجتماعي؛ فليس الشيخ أحمد وحيداً، بل ثمة مشايخ، على سبيل المثال لا الحصر، الشيخ الدكتور عيسى الغيث، والشيخ (إمام الحرم المكي سابقاً) خالد الكلباني، والشيخ المفكر محمد الدحيم، والشيخ المحامي عبد العزيز القاسم.. كلهم جاءت آراؤهم المجددة بهذا التوقيت كانعكاس أمين للتغير الاجتماعي الذي يمر به المجتمع السعودي.

المتعصب لديه قناعة مطلقة بأنه يملك حقيقة ثابتة لا تتغير بتغيرات الواقع، لذا لا يستطيع أن يفهم أن صاحب الفكر المجدد من داخل مدرسته الفكرية هو مجتهد حريص على المجتمع، بل مخادع مستنفع إن لم يكن متآمرا. هذا التعصب نجده مزدهراً في كافة التيارات الفكرية سواء كانت محافظة أم ليبرالية. فما هي جذور هذا التعصب الفكري لدينا؟

ترعرعت أفكار أغلب المجتمعات العربية على مدى قرون بوسط محلي ضيق منغلق (بلدات، قرى، بادية)، بكل مجتمع منها يتشابه الأفراد بالمصالح (الوظائف والتخصصات) وبالمكونات الأخرى القرابية والمذهبية، وبساطة أنماط المعيشة.. مجتمع يسود فيه التضامن الآلي (مقابل التضامن العضوي بالمجتمعات المدنية). ذلك أدى إلى تشابه بأنماط السلوك والمعرفة وطرق التفكير.. ومن ثم سيادة فكر واحد.

لكن إذا كان الفكر الواحد يتواءم مع طبيعة المجتمعات التقليدية الضيقة جغرافياً، فإن التغير الاجتماعي الذي يحصل بالعالم العربي عبر التنوع بأنماط المعيشة والمصالح والأصول العرقية والمذاهب، أدى إلى تغير في ثقافته وإلى حالة انتقالية مضطربة نحو مجتمع مدني متنوع فكريا. هي مضطربة لأن عقلية الفكر الواحد وما اعتاده الناس من أعراف وتقاليد وطرق تفكير يصعب عليها التآلف مع التعددية الفكرية، وتحتاج وقتاً لا يخلو من توتر.

كما أن كثيراً من النافذين في المؤسسات القديمة الذين يرون في التعددية تهديداً لمصالحهم لن يرضوا بتغيير أنماط السلوك وطرق التفكير والتعبير السائدة وسيواجهون التعددية، وهذا سلوك طبيعي ومتوقع. ومن هنا تبدأ إشكالية الصراع بين الفكر الواحد والتعددية.. وهي في هذه الحالة جدلية القديم والجديد.. المحافظون الذين يخشون التهور في التغيير أو القفز نحو المجهول، وفقدان الهوية والاغتراب، يقابلهم التحديثيون الذي يتوقون للتغير باعتباره ضرورة وجودية نتيجة تغير الواقع الاجتماعي.

هنا يمكن أن يحصل التعصب من كل فريق، فحتى الفريق الذي يدعو للتعددية، يمكن أن يمارس الاقصائية، مثله مثل أصحاب الفكر الواحد لأن الخلفية التأسيسية لطريقة التفكير واحدة، أي أن الفرق في محتوى التفكير وليس في طريقة التفكير.. المنهج المتعصب واحد، رغم أن المضمون مختلف.. لا أحد هنا أكثر تسامحاً من الآخر.. لذا يتساوى المتعصبون لفكرة سلفية مع المتعصبين لفكرة ليبرالية.. وهذا واضح فيما نشهده في المرحلة الحالية، وهي مرحلة انتقالية.

هذه المرحلة الانتقالية تشكل الآن ساحة للتفاعل (أو الصراع) بين العوامل المدنية والعوامل المضادة. العوامل التي تشد نحو المدنية تتمثل في: الزيادة الضخمة لعدد السكان، زيادة التعليم، قيام مؤسسات الدولة بالخدمات الاجتماعية (بلدية، صحية، تعليمية، اقتصادية..)، بدايات بروز المؤسسات المدنية، توطين البادية، تنوع شديد في الوظائف والتخصصات والمصالح وتعقُّد أنماط المعيشة.. إلخ؛ بينما العوامل المضادة تتمثل في ترييف المدن والقبلية، عسكرة السياسة

(الدولة البوليسية)، تسييس الدين وتأجيج الطائفية، وبقايا النظام الاجتماعي القديم.. الخ.

صحيح أن كثيراً من المدن العربية الكبرى مارست المدنية منذ ما يقارب القرن، وكانت تقود حالة التحديث في بلدانها، لكن ترييف المدن (النزوح الضخم من الريف والبادية إلى المدن) الذي بدأ قبل نحو نصف قرن، وبدأت تظهر آثاره قبل ثلاثة عقود، حوَّل قطاعاً كبيراً من هذه المدن إلى حالة تقليدية في أنماط السلوك وطرق التفكير...

فما هو حجم التأثيرات في المواجهة بين الفكر الواحد والتعددية؟ يتداخل هنا العديد من العوامل، والصدمات، مثل: الاستعمار والاحتكاك بالعالم الخارجي، الانقلابات العسكرية (في الخمسينات)، اكتشاف النفط وتضخم الثروة في الدول النفطية.. وقبل سنوات: العولمة (خاصة الاقتصادية) والإنترنت والفضائيات.. والآن تأثير الربيع العربي وتبعاته الدموية القاسية. كلها صدمات أثرت على نحو حاد ومتوتر في معادلة القديم والجديد.

ثمة ضرر الآن يلحق ببعض المجتمعات العربية نتيجة الصراع بين الطرفين (القديم والجديد). ربما تكون نتائجه اللاحقة صحية وربما غير ذلك. ففي العالم العربي، الآن، يتشكل مخاض عقد اجتماعي جديد يؤمن بحرية التعبير والتفكير يرى أصحابه أنهم متضررون من طغيان الفكر الواحد، بينما هذا الأخير يرى أن حقه بالسيادة حسب العقد القديم تتم مصادرته لعقد جديد طارئ لم يتبلور بعد.. ومن هنا ينشأ صراع معنوي ومادي.

وفي حالتنا السعودية نجد الخلاف من النوع الأول (المعنوي) كما يتمثل فيما نلاحظه في المشهد الثقافي والفكري من حراك وخلاف بين تيارات تبدو في صورة استقطابات ثنائية كالتقليد/ الحداثة أو السلفية/ الليبرالية، وداخل كل منها فروع لاستقطابات أخرى.. لكن يبدو -مقارنة بتجارب الشعوب- أن هذا الصراع لا يزال في الوضع الطبيعي في أغلب حالاته، والتضخيم الذي يراه البعض يرجع إلى عدم اعتيادنا على الحراك الفكري والاجتماعي وثقافة الاختلاف، فنرى في الاختلاف صراعاً سلبياً، إلا إن الإيجابيات في هذا الحراك هي أكثر من السلبيات..

في ظل التفاعل بين القديم والجديد يقرر أفراد المجتمع ميولهم وفقاً لمصالحهم وقناعاتهم فيتشكل عقد اجتماعي جديد أو يكرس العقد القديم بصيغة مختلفة. ومن خلال القناعة والمصالح تأتي مسؤولية التنوير وهو توعية الناس بمصالحهم وتوعية الأفراد بأهمية استقلالهم الفكري دون تبعية لاستبداد فكر مسبق أو محدث.
&