توفيق رباحي

كم منّا يعرفون أن هناك شيئا اسمه اليوم العالمي للغة العربية، وأن تاريخه هو الثامن عشر كانون الأول/ديسمبر من كل سنة؟ قليلون جداً بطبيعة الحال.


تحوّل هذا التاريخ إلى يوم عالمي للغة العربية عن طريق الأمم المتحدة وباقتراح من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم، بعد طلب من المغرب والمملكة العربية السعودية.


ليس معروفاً أن هناك لغات أخرى في الدنيا لها يومها العالمي بتوصية من الأمم المتحدة. لا لغات قوية وعريقة ومنتشرة، ولا لغات حديثة وضعيفة وعديمة الانتشار.
إذاً هناك مشكلة مع اللغة العربية أو حولها.


كيف؟ علمتنا التجارب أن أي قضية أو عنوان أو مشكلة يُعلَّم لها بما يميزها تصبح رمزاً لمشكلة أكبر، ومرادفاً لأزمة. حقوق الإنسان باتت تداس بالنعال منذ اختير لها يوما عالميا ترعاه الأمم المتحدة. والسنة التي تمر هي بالتأكيد أفضل من التي انقضت من حيث سجل حقوق الإنسان في كل مكان. أحوال الأطفال لم تصل دركاً أسوأ من الذي هي فيه منذ اختارت الأمم المتحدة يوما في السنة سمته عيد الطفولة. وكذلك حال المرأة واللاجئين والمياه وغيرها من العناوين.


الآن لا يسعنا إلى أن نقول .


لا شك أن اختيار هذا اليوم سيعني أن اللغة العربية ستحظى بمزيد من الاهتمام الرمزي دوليا، وربما تخصص لها ميزانيات إضافية توجه للبحث والتطوير وإقامة احتفالات اليوم العالمي وما يتطلبه من فلكلور وندوات ومقالات وبحوث لا يقرأها أحد.


ثم عودة إلى الواقع المر. حال اللغة العربية اليوم هو صورة طبق الاصل لحال المتكلمين بها: تخلف، يأس إحباط، اقتتال، انتكاس متعدد الأوجه. لا يمكن وسط واقع مظلم كهذا انتظار لغة قوية مشعّة تضاهي لغات سادة العالم.
مصير اللغة العربية لم يعد يهمّ غير حفنة من الباحثين والمهتمين هنا وهناك. وهم أقلية مهمّشة ممسوحة تعطي الانطباع بالسلبية ودوام الشكوى.


مأساة اللغة العربية في مستعمليها والباكين عليها وفي الكثير من مدّعي الدفاع عنها. هم أشد والد أعدائها. يجهلونها، يستحون بها، وعندما يستعملونها يشوهونها أيما تشويه. أشد أعداء اللغة العربية الكتّاب والصحافيون والمؤلفون، والقائمون على وسائل الإعلام بكل أنواعها وأوزانها. ثم عامة الناس.


من وجهة نظري، عدو اللغة العربية هو شخص يكتب بها شيئا كهذا: «قالت مصادر مطلعة في العاصمة كابل أنه تم قتل 7 متمردين من قبل شرطة كابل». وآخر يكتب هذا: «تم بدء المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين اليوم، بحسب ما تم الكشف عنه من قبل الجانب الإسرائيلي».


هذا الكلام يرد باستمرار ومثله في وسائل إعلام بعضها جماهيري. بهذا الأسلوب وهذه الصياغات، لا تحتاج إلى سكين تذبح به اللغة العربية. لقد ذبحتها وانتهكت كل حرماتها على أحسن وجه. ولن تحتاج اللغة إلى أعداء أجانب يتآمرون عليها لوأدها.


اللغة العربية بالشكل الذي يحنّ إليه بعضنا، ضاعت وانتهت. هي في لبنان اللهجة اللبنانية وفي مصر اللهجة المصرية وفي المغرب اللهجة المغربية وفي الجزائر اللهجة الجزائرية.. وقسّ عليها.


وسائل الإعلام المحلية من صحف وتلفزيونات ومواقع وأدوات تواصل اجتماعي في كلّ من هذه البلدان تستعمل لهجتها المحلية بالقدر نفسه وأكثر من استعمالها اللغة العربية.


أخطر ما في الأمر على اللغة العربية أن استعمال هذه اللهجات يتمّ بإصرار وافتخار (كبار المذيعين والإعلاميين يروّجون للهجات المحلية، معتقدين أنها تكفي لتعويض اللغة العربية). يعني أنه يخفي وراءه نية للتخلص من اللغة العربية كما عُرفت بقواعدها وأصولها الجامعة.


للفرد (الدهماء) في المنطقة العربية نصيبه من المسؤولية. هذا الفرد يصرّ على تعلم اللغات الأخرى واستعمالها وتوريثها لأبنائه وبناته. يتباهى بها في الشارع ويستحي باللغة العربية. هذه مشكلة مزمنة ليست جديدة بل أدركتها منذ بدء احتكاكي بعالم الجامعة والشغل في بلد منكوب لغويا اسمه الجزائر.


المدارس التي تدّعي النجاح تغري زبائنها (أولياء الأمور) بالزعم أنها تدرّس باللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو الإسبانية. لا توجد في الدول العربية الـ22 مدرسة تتباهى بأنها بارعة في تدريس اللغة العربية. القائمون على هذه المدارس يعرفون أن ذلك يجلب النظرة الدونية ويقود نحو الإفلاس.


نكبتا اللغة في «الفوق» وفي «تحت» التقتا في منتصف الطريق وأثمرتا غياب نموذج. هناك اليوم في البلدان العربية نماذج تفوّق في العلوم بمختلف تخصصاتها وفي اللغات، لكن أين هي الدولة التي تحتفي بالمتفوقين في اللغة العربية؟ كم عدد الدول التي تجازي البارعين في اللغة العربية؟
لا توجد اليوم في الدول العربية نماذج نجاح في اللغة العربية تُحتذى.. لا بمكانتها المعنوية والأدبية في المجتمع وبين الصفوة، ولا بنجاحها المادي وعوائدها.


نموذج الكلام الفصيح اليوم مذيعة لبنانية لا تهتم باللغة قدر اهتمامها بمفاتنها مثيرة أو شخص جاهل في محطة تلفزية مصرية يسمي نفسه مذيعا.


في بعض البلدان «حاميها حراميها».. الذي يُفترض أن يرعى اللغة العربية ويحميها (الجزائر والرئيس بوتفليقة نموذجا) يدوس عليها بلا حياء ويخاطب مساعديه وشعبه والأجانب بلغة المستعمِر: يذهب إلى جنوب إفريقيا أو إلى إسبانيا أو إلى الهند أو إلى البرازيل، الأمر سيان.. لغة المستعمر.


لن ينفع اللغة العربية أن تختار لها الأمم المتحدة حتى 365 يوما عالميا.. ولن تنفعها قرارات حكومية وندوات ومؤتمرات وتوصيات، طالما بقيت نكبة «الفوق» ونكبة «تحت» وواصلتا الالتقاء في منتصف الطريق.