فهد عريشي

علينا في المملكة أن نقوم بوضع عداد زمني نرى من خلاله التحول الاقتصادي من دولة تعتمد على البترول المتغير إلى دولة تتنوع مصادر دخلها واستثماراتها

&


كثر الجدل مؤخرا عن مسببات انخفاض البترول. محللون وخبراء في النفط يعزون ذلك إلى حرب سياسية باردة، البعض الآخر يرى أن الانخفاض يعود لأسباب اقتصادية بحتة لا دخل للأجندة السياسية فيه. ومن ضمنها تصريح وزير النفط السعودي الذي نقلته العربية: "إن هناك معلومات وتحليلات غير صحيحة يتم تداولها بين الحين والآخر، مثل ربط القرارات البترولية بأهداف سياسية، هذه التحليلات الخاطئة سوف تنكشف بلا شك ويتضح خطؤها".


مهما كانت الأسباب وتعددت الآراء حول مسببات انخفاض البترول إلا أنه لا يختلف أحد على أن الدول التي يعتمد اقتصادها على الصناعة والمعرفة هي الرابح الأكبر، والخاسر الأكبر هي الدول التي ينحصر اقتصادها القومي على النفط، لا أحد يتصور مدى سعادة دولة كالصين وهي تتأمل منظر سهم النفط وهو يهوي. هذا فأل خير لعامهم الاقتصادي 2015، ومصانعهم تأخذ نفسا عميقا لرفع مستوى الإنتاج بتكلفة أقل بكثير من عام 2014. والطاقة الاستيعابية لخزانات النفط لديهم لم تعد تكفي، ويتمنون لو كان لديهم أخرى وضعفها الكثير.


لا أريد في هذا المقال أن أحلل الوضع الاقتصادي بقدر ما أريد أن أبين أن تنويع مصادر دخلنا في المملكة أصبح من أساسيات أمننا القومي. أن يأتي يوم ويصبح اعتمادنا على الدخل من بيع براميل البترول أقل من 20% من ناتج الميزانية السنوية فإن ذلك أمر شاق وصعب التنفيذ ولكنه ليس بالأمر المستحيل. هناك مدن اقتصادية سعودية سمعنا عنها الكثير ولكن حتى الآن لم نر ثمارها، وهناك مدن معرفية وجامعات لها أوقاف بحثية بوسعها أن تنتج اقتصادا يغنينا عن كل آبار النفط، فقط متى ما وضعنا خططا جادة وبأساسات نابعة من خبرات وتجربة فإنه خلال عقد واحد من الزمن نستطيع أن نقول وداعا لزمن الاعتماد على الدخل الوحيد.. دخل البترول، ونبدأ زمنا أكثر أمانا لا نلتفت فيه لبورصة براميل النفط ولا يهمنا لو وصل سعر برميل النفط إلى أقل من تكلفة الإنتاج.


أعتقد أن العوامل السابقة التي كانت تضغط علينا وتحصرنا في الاعتماد على البترول أصبحت أقل تأثيرا الآن، فخلال عقود التنمية والاقتصاد الماضية لم نكن نملك الأرض الخصبة لبناء اقتصاد صناعي أو اقتصاد معرفي، ولكن الآن أصبحت لدينا كل مقومات النجاح. المدن الصناعية والأودية التقنية وكراسي البحث في الجامعات وعشرات الآلاف من الطلاب المبتعثين في كافة المجالات الهندسية والإدارية والقانونية وما يتوافر من بيئة خصبة لصنع الاقتصاد البديل. وما ينقصنا فقط أن نقر هيئة أو مؤسسة ولا تهم آلية هيكلتها بقدر ما يهم طريقة التنفيذ، وتسعى إلى أن تضع استراتيجية لاستغلال كل مواردنا وتحويلها إلى اقتصاد معرفي وصناعي يغنينا عن الاعتماد على اقتصاد البترول، أو لنأخذ أحد التجارب الدولية ونطبقها في دولتنا وفقاً لما يناسب بيئتنا. وكمثال على التجارب العالمية تجربة سنغافورة الرائعة في مجال التنمية رغم فقرها من الموارد الطبيعية، ورغم أن سكانها من الناحية الاجتماعية من أعراق مختلفة تماما من الصين والهند وماليزيا وأقليات آسيوية وأوروبية.


فقبل 64 عاما تقريبا لم يكن من عمل لسكان سنغافورة سوى خدمة المهاجرين إليها، وبعد استقلالها في عام 1965 ورغم كل معوقات التنمية إلا أنها قامت بصقل مهارات الموارد البشرية، والدفع بها في الخدمة المدنية لتحقيق التميز حتى أصبح نظام الخدمة المدنية في دولة سنغافورة هو الأكثر جدارة في العالم. ومن ناحية السياسة الاقتصادية نجحت في المواءمة بين النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي وذلك وفقا لمحاضرة ألقاها في الإمارات البروفيسور محبوباني عميد وأستاذ تطبيق السياسات العامة في كلية "لي كون لي" للسياسات العامة في جامعة سنغافورة الوطنية، وأكد خلال محاضرته أن التجربة السنغافورية هي أكثر التجارب قربا لدول مجلس التعاون الخليجي، ولذلك علينا في المملكة أن نقوم وبجدية بوضع عداد زمني نرى من خلاله التحول الاقتصادي من دولة تعتمد على البترول المتغير إلى دولة تتنوع مصادر دخلها، وأن ننوع استثماراتنا وننقل بذكاء تجارب الدول المختلفة بما يتوافق مع اختلافاتنا الاجتماعية حتى نصل بخطتنا إلى نقطة الصفر.. نقطة نستطيع أن نقف عندها ونقول وداعا لزمن الاعتماد على مصدر دخل واحد ومرحبا بزمن التنوع الاستثماري الذي لا ينضب.
&