يوسف الديني

تغيرت الأوضاع كثيرا في المنطقة خلال العام الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، وعلى دول المنطقة أن تعيد النظر في طريقة إدارتها للعلاقات الدولية واستراتيجية الحوار مع هذه المتغيرات الجديدة، ليس فقط على شكل براغماتي يحاول التواصل مع الخطابات الغالبة أو المهيمنة، بقدر حاجتها الماسة إلى إعادة كشف حساباتها في المنطقة، على أساس تلك المتغيرات وما أحدثته من مستجدات، على مستوى الخطاب الثقافي والاجتماعي، وليس السياسي فقط، فما يحدث الآن هو دفع استحقاقات فشل «الربيع العربي» ليس على المستوى السياسي، فذلك ثمن تم دفعه باهظا، عبر تقويض سيادة البلدان واستباحة مجموعات وكتل سياسية أصولية المشهد بشكل مسلح، كما يفعل الحوثيون في اليمن، أو من خلال مناكفة الدول المستقرة، كما يتفنن «داعش» في ذلك، مسنودة بغياب رؤية حقيقية في مواجهة هذا الخطر الداهم، والاكتفاء بالانضواء تحت الحملة الدولية التي تقودها الولايات المتحدة، مكررة الأخطاء ذاتها في حربها ضد الإرهاب، مضيفة خطأ استراتيجيا كبيرا، وهو فصل سياق الإرهاب الداعشي عن مسبباته السياسية، وعلى رأسها بقاء نظام الأسد، والبحث عن المكونات الفكرية للتنظيم، التي لا صلة لها بتمدده السياسي على الأرض الخاضع للعبة معقدة تتداخل فيها التوازنات الإقليمية بين دول المنطقة أكثر من وجود رؤية سياسية داعشية تكتفي بقراءة تلك التناقضات السياسية بين دول الإقليم، وتتحرك وفقا لمخرجاتها.


في هذا العام، شهدنا خروج الإسلام السياسي من المشهد في أكثر من موقع، وتواصل الخروج السلس في تونس عبر إرادة شعبية لا يمكن القياس عليها أو اعتبار أنها نتاج ثقافة الربيع العربي، وثورة الياسمين قدر أنها ردة فعل مجتمعية لتونس بورقيبة أو ما تبقى منها، في ظل تهديدات صارخة من تنامي الأصولية والتطرف المسلح في تخوم المغرب العربي وبعض الدول الأوروبية، وهو ما سيلقي بظلاله في حال انتهاء مرحلة «داعش»، ورجوع قوافل العائدين من مناطق التوتر إلى بلدانهم الأصلية.


تراجع «القاعدة» بدأ مبكرا مع رحيل الرمز بطريقة دراماتيكية، ثم تراجع شعبية الظواهري، وتفكك بنى التنظيم الأساسية، والأهم تراجع اقتصاديات «القاعدة» التي لم تكن مستقرة، فهي لم تطور من رؤيتها المالية كما يفعل «داعش»، مكتفية بالتبرعات وتحويل الأموال والاكتفاء الذاتي للمجموعات الصغيرة، لذلك انتقلت من طريقة الشبكات التمويلية إلى طلب التبرع برسائل عامة محفوفة بمخاطر أمنية، وهو ما يؤكد الفشل في إيجاد مصادر تمويل غير تقليدية، كمشاريع مستقلة ضخمة ذات عوائد مستمرة، والاعتماد على التبرعات الفردية أو التحويلات الصغيرة نابع من اليقظة التي يعيشها العالم، وتحول الإرهاب إلى ظاهرة عالمية، حيث أصبح نقل الأموال أكثر خطورة وأشد صعوبة، لا سيما أن هناك قوائم متجددة بالكيانات والأفراد التي تقدم مساعدة مالية للتنظيمات الإرهابية.


في السياق الثقافي والفكري كان لضمور «القاعدة» وتراجع الإسلام السياسي أثر كبير في التوعية بمخاطر التطرف الديني والأصولية، لكن من بوابة أمنية سياسية وليس ثقافية، وهو ما خلق فراغا على مستوى الخطاب والشخصيات الفاعلة والمؤثرة، وحتى في سياق تجديد الأفكار الدينية، والآن يتم ملء الفراغ بالطريقة ذاتها عقب الحادي عشر من سبتمبر، عبر تكنيك تغيير الجلد الذي تمارسه شخصيات صحوية سابقة، محاولة اللعب على فراغات «القاعدة» والإسلام السياسي، وهشاشة وضعف مؤسسات دينية رسمية فقدت التأثير في الفضاء العام الديني، وتحولت فقط إلى أيقونات رسمية تختص بالفتاوى اليومية والمتكررة.


غياب أي ملامح دينية إصلاحية تنتشل المشهد من الأفكار الرائجة للعنف أو المواقف الصامتة تجاه الإرهاب، مكتفية بالإدانة الإجمالية مع تكثيف جهودها في الحرب على أي فكرة أو شخصية تحمل تجديدا فقهيا أو خطابا مضادا للأصولية، المظلة التي أفرزت كل نظريات العنف والتكفير وعزل الفرد عن السياق المجتمعي، بل وكان لها دور حتى في التأثير على خطابات «القاعدة» و«داعش» التي لا تعدو أن تكون تصعيدا لأفكار الأصولية في شقها السياسي والعنفي.
هناك تحسن نسبي فيما يخص المشهد السياسي، إذا ما أخذنا في الاعتبار الحملة الدولية ضد «داعش»، التي قربت وجهة نظر الفرقاء، ولو بشكل نسبي، حول مخاطر الإرهاب، والمصالحة القطرية المصرية، والانتفاضة المجتمعية ضد احتلال الحوثيين للمشهد اليمني، إلا أن هذا التحسن النسبي والوقتي لا يعفينا من تحسس المخاطر الكبرى لغياب أي خطابات ثقافية دينية ومجتمعية معتدلة، فالمشهد الفكري في أسوأ حالاته على مستوى الأفكار المتداولة أو طريقة نقاشها بين الكتل الدينية التي لا تزال تتحرك بتكنيك الفكر الجمعي منذ انبعاث حركيات الصحوة في السبعينات.


التشاؤم يتعاظم إذا أخذنا معدلات النمو في دول المنطقة، وظهور كتل شبابية كبيرة خارج المشهد والسياق السياسي والديني الذي ينتمي أطراف النزاع فيه لأجيال سابقة تجرجر خلافاتها وصراعاتها الأصولية، بينما يعيش الشباب المكون الأكثر تأثيرا عزلة مفاهيمية وفكرية على المستوى السياسي والديني. صحيح، هناك أعداد ومجموعات انتمت إلى «داعش» كما مجموعات أخرى تختار على طريقة الكفاح الفردي خيارها العقائدي أو السياسي أو الفكري، إلا أن الأغلبية تعيش حالة فقدان التوازن والتوهان الفكري، وآية ذلك الأمواج الشبابية الكثيفة القابعة تحت التعصب الرياضي أو ملاحقة الصرعات والموضات الغريبة، وتوثيقها بالصوت والصورة، في ظل طغيان ثقافة الصورة، وغياب المحتوى الجيد.


2014 عام «داعش» بامتياز، ثقافة وخطابا وإعلاما. حتى أولئك الذين ينظرون إلى هذا التنظيم الدموي على سبيل التقزز والاستغراب والدهشة باتوا متعايشين مع الحالة، بل ويعمد الكثيرون إلى تبادل منتجات «داعش» البصرية على سبيل التفكه والتندر، في ظل غياب أي مبادرات أو حملات ضد الفكر المتطرف الذي أنتج كل هذا الخراب، وعلينا أن ننتظر 2015 بكل الترقب والحذر.