مفاوضات جنيف باتت مملة ومكررة وحققت معظم اهدافها في جولتها الاولى والنظام السوري في موقع افضل.. وهذه اسبابنا

عبد الباري عطوان

المفاوضات السورية الجارية حاليا في جنيف بين وفدي الحكومة والمعارضة باتت مملة مكررة لا جديد فيها على الاطلاق، في وقت يتواصل سقوط الضحايا الابرياء في جبهات القتال المختلفة على طول سورية وعرضها.

الخلاف هو على السلطة، وكرسي الحكم، فالنظام يعتبر هذا الكرسي حقا شرعيا له والمعارضة ترى عكس ذلك، وتريد انتزاعه عبر المفاوضات بعد ان عجزت، وبعد ثلاث سنوات من القتال الشرس، من تحقيق هذا الهدف عبر البندقية.

نختلف مع معظم الآراء التي تقول ان مؤتمر جنيف بشقيه الاول والثاني قد فشلا في التوصل الى حل للازمة، مثلما قال السيد نبيل العربي امين عام الجامعة العربية اليوم امام المجلس الاقتصادي العربي، لان الهدف لم يكن مطلقا الوصول الى هذا الهدف، وانما جمع الطرفين تحت سقف واحد، وكسر الجليد، وبما يؤدي الى اعتراف متبادل، وهذا ما تحقق حتى الآن.


دعونا نعترف بأن النظام السوري لم يرسل وفده من اجل التفاوض على تسليم السلطة، والائتلاف لا يمثل الا نفسه واقل من ثلث اعضائه فقط، ومن يعتقد غير ذلك يغالط نفسه، خاصة ان هذا النظام بات متأكدا ان الوقت يعمل لصالحه وانه بدأ مسيرة الخروج من عنق الزجاجة للاسباب التالية:


***

*اولا: قوات الجيش العربي السوري التابعة للنظام تحقق مكاسب متسارعة في ميادين القتال، وخاصة في منطقة الجملون الاستراتيجية، ولا نستبعد ان نسمع في ايام قليلة انباء دخولها مدينة يبرود البوابة الرئيسية الى مدينة عرسال الاستراتيجية التي تتحكم بالممر الرئيسي مع لبنان، مضافا الى ذلك ان الانشقاقات في صفوف هذا الجيش توقفت تقريبا، ومن انشق لم يفد المعارضة كثيرا، فماذا فعل مناف طلاس مثلا؟ وهل تذكرون الضجة الكبرى التي رافقت انشقاقه وصورته كما لو انه نابليون العصر الحديث؟

*ثانيا: الانقسامات الحادة بين فصائل المعارضة المسلحة، والاسلامية منها على وجه الخصوص، وتحولها الى صدامات دموية الامر الذي حرف انظارها عن الهدف التي جاءت الى سورية من اجله اي محاربة النظام واسقاطه، واستغلال النظام لبعض اخطائها وتطبيقاتها للشريعة الاسلامية مثل الجلد وقطع الرؤوس لتنفير الناس منها في هجوم اعلامي مضاد.

*ثالثا: اتساع دائرة اليأس في اوساط السوريين من حدوث تغيير ديمقراطي وشيك في بلادهم، بعد ان تأكد لهم ان الثورة التي ايدوها وراهنوا عليها كثيرا كاداة للتغيير والاصلاح، تحولت الى قتال مسلح، وان معظم الفصائل المقاتلة لا تريد دولة مدنية، وانما اسلامية، تطبق فيها الشريعة الاسلامية تطبيقا متشددا، وهذا لا يروق لنسبة كبيرة من السوريين، وان كان يروق لنسبة كبيرة منهم ربما مماثلة ايضا في المقابل من مؤيدي المشروع الاسلامي.

*رابعا: اتساع دائرة نظرية المؤامرة في اوساط الراي العام العربي التي تقول ان هناك مؤامرة تقف خلفها جهات غربية تتلخص في تفجير الثورات لتفتيت الوطن العربي، وتدمير جيوشه وقدراته العسكرية وبما يخدم اسرائيل وهيمنتها على المنطقة كقوة اقليمية عظمى في نهاية المطاف، ويضربون مثلا بالفوضى الدائرة في ليبيا واليمن والعراق والانقسام المتفاقم في مصر.

*خامسا: عودة مئات الالآف من اللاجئين السوريين الى بلادهم، خاصة من الاردن يأسا واحباطا من شح الدعم العربي لهم، والظروف المعيشية السيئة التي يعيشون في ظلها، ففي الوقت الذي ترصد فيه دول عربية خليجية (قطر والسعودية) المليارات لدعم المعارضة المسلحة لا تقدم لهم غير الفتات وتغلق ابوابها في وجوههم، وتحرمهم من فرص العمل ونسبة كبيرة منهم من الكفاءات العلمية والتقنية العالية.

*سادسا: حدوث تغيير في موقف الاعلام العربي وادائه، فمحطة ldquo;الجزيرةrdquo; باتت اقل اهتماما وتحريضا في تغطيتها للملف السوري، لان السعودية قلصت من دور قطر وحجمته، واحتلت المقعد الامامي القيادي ولان اولوياتها اي ldquo;الجزيرةrdquo; انقلبت، وباتت تركز اكثر على مصر، وتحرض ضد المشير عبد الفتاح السيسي وحكمه العسكري ولمصلحة الاخوان المسلمين وعودتهم الى الحكم، بينما تعطي غريمتها ldquo;العربيةrdquo; اهتماما معاكسا اي لدعم النظام في مصر، وتقليص جرعة تحريضها ضد النظام في سورية، حسب توجهات البوصلة الرسمية السعودية.

*سابعا: المراجعة الجذرية التي تجريها المملكة العربية السعودية لنظرتها وسياساتها تجاه الازمة السورية، وتجريمها للجهاد واسكاتها جيش العلماء والدعاة المحرضين عليه، ودعوتها لابنائها المجاهدين بالعودة الى بلادهم فورا ومواجهة السجن لسنوات، وسحب الملف السوري من الامير بندر بن سلطان الذي يتبنى الحل العسكري بقوة، ودعم ldquo;الجماعات الجهاديةrdquo; بالتالي، وتسليمه اي الملف الى الامير سعود الفيصل وزير الخارجية والامير محمد بن نايف وزير الداخلية المقرب كثيرا من واشنطن.

*ثامنا: نجاح النظام، وبدعم من روسيا، وشبه موافقة امريكية، على قضية ldquo;الارهابrdquo; واعطائها الاولوية في محادثات جنيف مما يعني انه يقدم نفسه كضحية هذا ldquo;الارهابrdquo; مثل الغرب، وان معارضيه في معظمهم من الجماعات ldquo;الارهابيةrdquo;، وهذا ما يفسر تقدم روسيا بمشروع قرار الى مجلس الامن لادانة الارهاب، وهي خطوة ذكية جدا لان العالم الغربي الذي يدعي شن حررب ضد الارهاب وكلفته آلاف المليارات لا يستطيع استخدام ldquo;الفيتوrdquo; ضد مشروع لادانة هذا الارهاب.


***


الوفد السوري الرسمي المفاوض سيظل يلعب على عنصر الوقت، وتحويل القضية السورية الى قضية انسانية وليس قضية سياسية وتغيير ديمقراطي، والتركيز على بنود جنيف الاول التي تطالب بوقف اطلاق النار ورفع الحصار، ودخول قوافل الاغاثة الى المحاصرين والبناء على تجربة مدينة حمص في هذا الاطار، وتأجيل مسألة هيئة الحكم الانتقالي الى المراحل الاخيرة.

السيد وليد المعلم وزير الخارجية ورئيس وفد النظام في مفاوضات جنيف سيحزم حقائبه الجمعة، ويعود واعضاء وفده الى دمشق وهو في قمة النشوة، لان الاستراتيجية التفاوضية نجحت تماما في عدم تقديم اي تنازل، صغيرا كان ام كبيرا، تاركا السيد الاخضر الابراهيمي يشد شعره، وهو كثيف على اي حال، ويصرخ مستنجدا بالدولتين العظميين للتدخل وانقاذ المفاوضات من الانهيار.

المفاوضات ستنهار حتما عاجلا ام آجلا، لان اي من الوفدين المفاوضيين لا يملك التفويض لتقديم تنازلات ولا يزيد دوره عن دور ساعي البريد وباتت مفاوضات جنيف تطبيقا للقول الشهير ldquo;اسمع جعجعة ولا ارى طحناrdquo;.
النهاية شبه المتوقعة وربما النهائية لعملية المفاوضات في جنيف ليس اقامة هيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة مثلما يريد الائتلاف ووفده، وانما حكومة وحدة وطنية ببعض الصلاحيات في افضل الاحوال، تضم بعض ldquo;المستوزرينrdquo; في صفوف المعارضة، وما اكثرهم، تحت مظلة النظام، وبدعم روسي امريكي وعربي ايضا، والرحمة للمئتي الف شهيد الذين سقطوا حتى الآن في سورية.

الم تكن هذه هي نهاية الحرب الاهلية المماثلة تقريبا في الجزائر، والاخرى التي اندلعت في الشيشان؟ نقولها للتذكير فقط ونأمل ان نكون مخطئين.