فاروق جويدة

أكثر مايثير الحزن والألم فى الشارع المصرى الآن هو حالة التراجع السلوكى والأخلاقى التى اصابت الناس .. من يقرأ الصحف ويشاهد الفضائيات ويسمع نشرات الأخبار لا يصدق ان هذه هى مصر التى عرفناها واحببنا كل شىء فيها ..

من يتابع الجرائم فى الشارع المصرى وما يحدث فيه الآن يبكى على أيام كانت شوارع مصر لا تنام ما بين الفن والثقافة والعلاقات الإنسانية الجميلة والراقية .. اين تجمعات المصريين امام المسارح والحفلات والمكتبات ودور العبادة .. اين العلاقات الأسرية حين كانت القلوب تواسى بعضها فى الشدائد وتفرح مع بعضها فى المناسبات السعيدة .. ما هذا الحجم من الكآبة الذى يطفح على وجوه الناس .. ما هذا الكم من الإحباط الذى يبدو امامك فى كل شىء .. هل هو الفقر .. هل هو غياب الأمن .. هل هى العلاقات الاجتماعية التى افتقدت الرحمة والتآلف حين سطت مجموعة قليلة من الناس على مصير شعب ومقدرات وطن ،حاول ان تقرأ معى خريطة الشارع المصرى دون افتراءات او ادعاءات لكى نصل الى اسباب هذه الظواهر الاجتماعية والسياسية والأخلاقية الخطيرة .. هل هى الثقافة التى تراجعت وأخذت معها سلوكيات وترفع الزمن الجميل .. هل هى لعنة المال التى اقتحمت حياتنا ولم يعد احد قانعا بما لديه .. ام انها التغيرات الاجتماعية الحادة التى اطاحت بكل الثوابت والقيم ..
lt; فى كل يوم تقع عينى على صفحة الحوادث فى اى صحيفة او اى فضائية تقرأ وترى عشرات الجرائم وفيها كل مظاهر الخلل السلوكى والأخلاقى .. إن فيها خيانة الأزواج وجرائم الآباء والأبناء والطفولة المعذبة امام قلوب لا تعرف الرحمة .. وفيها جرائم الاغتصاب والاعتداء على ارواح الناس بأحط الوسائل واقذر الأساليب ..

إن صفحة الحوادث وما ينشر فيها لا يتجاوز 10% من حجم الجرائم فى الشارع المصرى وهى تعكس صورة مجتمع اختلت كل المقاييس فيه .

lt; لم يكن من المتصور ان تصل درجة العنف فى حياة المصريين الى ما نراه الآن لن نتحدث هنا عن قضية الإرهاب والعصابات التى خرجت تنتقم من مجتمع مؤمن وآمن ومستقر لتقلب موازين الحياة بالنار والرصاص والدم.. كانت سيناء يوما مجتمعا قبليا تحكمه الأعراف والتقاليد وكانت العائلات والقبائل تعرف بعضها بالاسم والمكان وكان من الصعب ان تسيل نقطة دم هنا او هناك فهل هذه هى سيناء القديمة ومن اين هبطت عليها تلك اللعنة السوداء حاول ان ترى صورة الحوادث الإجرامية فى تفجير مديريات الأمن وإحراق الأقسام وسيارات الشرطة والاعتداء على جنود يحرسون الوطن ويموتون فى سبيله .. حاول ان تشاهد ما يحدث من جرائم على الطرق السريعة واغتصاب الآمنين وقتل المارة والاعتداء على حرمة البيوت .. هذه جرائم كلها جديدة علينا وكانت بعيدة تماما عن الشارع المصرى وهى انعكاس شديد الضراوة لما حدث من انحدار فى الأخلاق والسلوك .

lt; من اخطرالظواهر التى انتشرت فى حياة المصريين الجرائم الأسرية ان يقتل الابن اباه او يقتل الأخ شقيقه .. لقد انتشرت بيننا منذ سنوات قصة قتل الأزواج وكانت محدودة ولكنها فى السنوات الأخيرة اقتربت من الظواهر العامة خاصة انها حملت اشباح الخيانة .. هنا ظهرت خلافات المواريث وغياب القناعة واساليب التحايل والغش والعدوان على حقوق الآخرين .. كانت الأسرة المصرية نموذجا فى التماسك والرحمة والتعاون بين كل ابنائها .. وكانت للأب مكانته وللزوج حرمته وللأبناء قدسيتهم فى اعماق الجميع ومنذ سيطرت موجات الجشع على قلوب الناس انزوت كل هذه الأشياء وبدلا من ان نرى اشجار الرحمة رأينا حشود الكراهية والحقد وغياب الضمير .

lt; لم تقتصر الجرائم الأخلاقية التى عكست انحدار القيم على الشارع والأسرة وصفحة الحوادث بل إنها انتقلت بصورة مخيفة الى الواقع السياسى المصرى فى ظل انقسامات لم تعد تفرق بين الحوار والشتائم وبين الإقناع والترصد وبين خلاف الفكر وصراع المصالح .. لقد حمل الصراع السياسى فى مصر كل امراض الشارع ابتداء بالاغتيالات المعنوية وانتهاء بالتصفيات الأخلاقية .. وبجانب الرغبات العدوانية فى الإقصاء والتدمير والتشهير اصبح من الصعب ان تجد خلافا سياسيا رفيعا يحترم الرأى الآخر .. وعلى صفحات الجرائد والفضائيات لم تعد تقرأ رأيا سديدا او فكرا منظما ولكن القذائف الصاروخية تنطلق كل ليلة ليفقد المصريون آخر ما كان لديهم من اساليب الحوار وترفع الكلمة ..

lt; لقد شارك الإعلام المصرى فى كل انواع الجرائم الأخلاقية وغير الأخلاقية التى انتشرت فى حياة المصريين وقد استخدم فى ذلك كل الأساليب ابتداء بالبرامج الحوارية والتوك شو والمسلسلات والأفلام والأغانى الهابطة ولم يكن غريبا ان يتصدر الشاشات الآن مطربو الدرجة الثالثة ونجوم ما بقى من شارع الهرم وحشود الفن الهابط وكأننا لم نكتف بالفن الهابط الذى افسد اذواق شعب ولكننا سرعان ما اتجهنا بقوة الى الإعلام الهابط لنفسد ما بقى من الترفع فى اذواق الناس والأسوأ من ذلك كله ان يتحول الإعلام المصرى فى سابقة هى الأولى من نوعها الى وسيلة لاقتحام خصوصيات الناس وإذاعة اسرارهم و مكالماتهم التليفونية على الملايين بصورة تثير الأسى والغثيان .

lt; وسط هذا الركام الأخلاقى كانت الأمية تنخر فى عظام المجتمع المصرى وتدمر آخر ما بقى فيه من قيم الترفع والزمن الجميل .. ومع الأمية كان فقراء العشوائيات واطفال الشوارع يتناثرون على وجه المجتمع مثل الأمراض المستعصية فكانت لعنة المخدرات و الاغتصاب والسرقة وللأسف الشديد ان هذه الحشود المرضية تحولت الى واقع اجتماعى واخلاقى شديد البؤس والضراوة.

وما بين ظلام الأمية .. وخرائب العشوائيات وفقر اطفال الشوارع كان من السهل ان تنمو ظواهر اجتماعية خطيرة .. ما بين الأميين ظهر التدين الكاذب واصبح واقعا اجتماعيا وامنيا يهدد كيان الدولة ويدمر اركانها .. وفى ظل دعوات دينية مضللة اقتحمت الشارع المصرى كان من السهل ان تظهر خرائب الفكر المتخلف لتعود بالمصريين مئات السنين الى الوراء .

فى ظل حشود الفقر والأمية كانت هناك طبقة اجتماعية استطاعت ان تسلب هذا الشعب كل حقوقه المشروعة فى حياة كريمة .. وغابت هذه الطبقة عن آداء دورها الاجتماعى فى إنقاذ ابناء هذا الشعب من هذه الحياة الصعبة .. كانت المدن الجديدة والأبراج الشاهقة تضع حواجز جديدة كل يوم بين ابناء الشعب الواحد .. وفى ظل هذا المناخ كان من السهل ان تنمو اشباح الحقد والكراهية حتى وجدنا اجيالا كاملة تخرج على المجتمع وتعلن العصيان على كل من استباح حقوق هذا الشعب .. كان ينبغى ان يتم تعديل المسار وان يحصل الفقراء على شىء من حقوقهم والا يتركهم المجتمع فريسة الفقر والحاجة حتى لا يتحولوا الى الغام تنفجر فى وجه الجميع .

وما بين انانية القادرين وصرخات المحتاجين والمعدمين تحول الشارع المصرى الى مرتع خصب لأخلاقيات لا تتناسب مع تاريخه وثقافته واصوله القديمة .. وجدنا انفسنا بين فريقين من ملك كل شىء وافتقد الرحمة ومن خسر كل شىء وافتقد القناعة .. هنا تحولت قضايا المجتمع وازماته الاجتماعية والاقتصادية الى ازمات اخلاقية ثم انعكس ذلك كله على ثقافة المجتمع التى تسربت اليها امراض كثيرة ابتداء بلغة الحوار وانتهاء بصورة الجريمة ..

lt; فى تقديرى ان الشارع المصرى يحتاج الى مواجهة كل هذه المخاطر مرة واحدة .. لانستطيع ان نعالج القضايا الأخلاقية بعيدا عن جذورها ومنابعها الاجتماعية ولا نستطيع ان نصل الى لغة راقية فى الحوار امام مواكب الأمية الثقافية والأمية التعليمية وحشود الجهل التى اجتاحت الجميع ولا ينبغى ان نترك فريقا من القادرين يعيش حياته مستمتعا بما نهب بينما عشرات الملايين لا يجدون ابسط حقوقهم فى الحياة ولا يعقل ان نبحث عن مناخ سياسى على درجة من الوعى والتحضر فى ظل غياب كامل لدور النخبة المصرية العريقة .. إن غياب القادرين واختفاء النخبة .. والواقع البغيض الذى يفرض نفسه وشروطه على فقراء مصر لا يمكن ان يحمل واقعا اخلاقيا رفيعا وحين نواجه مشاكلنا الاقتصادية ويجد الشارع المصرى شيئا من العدالة فى توزيع خيرات الوطن وحين نواجه ازمتنا الثقافية بالعودة الى ثوابت العقل وانفتاحه وحين تختفى حشود الأمية فى الشوارع من ملايين الأطفال يمكن ان يختفى جيل كامل من اصحاب السوابق ومدمنى الجرائم والمخدرات .

إن القضية لم تكن انفلات مجموعات او فصائل ولم تكن شطط حشود سياسية ولكنها مخلفات نظام سياسى فقد الكثير من قدرته على مسايرة روح العصر وبناء مجتمع آمن فى ظل ثوابت اجتماعية واخلاقية يحرص عليها.. إن التجاوزات الأخلاقية والسلوكية التى طفحت على الشارع المصرى لم تكن وليدة احداث سريعة ولكنها رواسب من الماضى البعيد ويجب ان يتصدى لها الجميع .. إنها تحتاج الى دعم النخبة بعد ان تفيق من ثباتها .. وتحتاج دعم القادرين بعد ان يتخلصوا من مطامعهم وجشعهم .. وتحتاج اصحاب الفكر وعلماء الاجتماع والفكر السياسى لكى يتتبعوا هذه الظواهر الأخلاقية ويعودوا بها الى جذورها المختلفة وكيف وصلت بنا الى ما نحن فيه .

إن الغريب فى الأمر ان المصريين يعرفون كل ازماتهم ويدركون اسبابها بل إن لديهم كل وسائل العلاج ولكن فى ظل اجهزة افتقدت الرؤى ومسئولين افتقدوا الحماس والشفافية وسلطة شاخت واصبح من الضرورى ان تجدد دماءها وتستعيد شبابها يمكن ان يكون الحل سهلا.. إن اخلاق المصريين فى محنة حقيقية تحتاج الى صحوة