كنت قد تفاءلت قليلاً بأن يحقق الحوار بين وفدي النظام والمعارضة السورية شيئاً من التقدم نحو حل سياسي، ولكن الجولة الثانية من المفاوضات أوحت بأن الحل السياسي بعيد، وأن رعاة المؤتمر (روسيا والولايات المتحدة) أنفسهم غير متفقين على رؤية واضحة لما ينبغي أن ينجم عن المفاوضات، ومن الواضح أن بنود مؤتمر جنيف-1 فتحت أبواب الفشل حين جعلت ترتيب بنود الحل تبدأ من حيث يجب أن تنتهي، وحين لم تضع رؤية محددة للمرحلة الانتقالية وتركت الباب موارباً لأي احتمال ممكن.


وكلا الوفدين مضى إلى جنيف غير مطمئن إلى أن المفاوضات مجدية، ولكنهما رضخا للضغوط الدولية. أما وفد النظام فقد وجدها فرصة لمخاطبة العالم بأنه يحارب الإرهاب، بعد أن أغرق الثورة بالإرهاب وتمكن من تأكيد وجود عصابات مسلحة تم إيجادها لتقدم الدليل على أن ما يحدث في سوريا ليس ثورة شعبية وإنما هو مؤامرة دولية لإغراق سوريا بالإرهاب كي يتوقف مشروعها الممانع المقاوم، وكأن الجيش السوري كان في طريقه إلى تحرير الجولان والقدس فسارع المتآمرون لإيقاف زحفه.

وأما وفد المعارضة فقد مضى إلى جنيف كيلا يقول المجتمع الدولي إن المعارضة لا تريد حلاً سياسياً، ونجح وفد المعارضة في تشخيص القضية السورية وفي كونها ثورة شعبية تريد كرامة وحرية، وإيقافاً لآلة القتل والإرهاب المنظم الذي دمر مدن سوريا وأريافها، وجعل أكثر من نصف الشعب السوري يتشرد ويهاجر بحثاً عن الأمان، هذا فضلاً عن مئات الآلاف من الشهداء والقتلى والمفقودين والمعتقلين والذين يموتون جوعاً بسبب الحصار. وقد بدت مشكلة الحصار والتجويع ضاغطة مما جعل المؤتمر يصرف وقته في موضوع فك الحصار عن حمص القديمة، وبات المطلوب من النظام أن يسمح بدخول شيء من الطعام لمن يترقبون الموت، ولم يفلح الإبراهيمي في تحقيق تفاهم حول الموضوع الرئيس.

وكان واضحاً أن وفد النظام ليس وفد اتخاذ قرارات تاريخية حاسمة، فليس بين الموفدين أحد يمتلك موافقة أو رفضاً لأي اقتراح أو موضوع دون العودة إلى صاحب القرار، وتشكيلة الوفد توضح أنه وفد مفاوضات شكلية. ونحن نعلم أن النظام حين يكون جاداً ويريد حلولاً حاسمة يكون أعضاء الوفد عسكريين يمثلون مواقع القوة في النظام، كما كان يحدث في المفاوضات مع الأتراك بعد قضية أوجلان (مثلاً) يوم هددت تركيا بعمل عسكري ضد سوريا، ويومها هرع الضباط الذين يمثلون الدائرة الضيقة في الحكم لإجراء مفاوضات سرعان ما أنهت المشكلة.

وقد تمكن وفد المعارضة من القفز فوق المشكلات التي اعترضته قبيل تشكيل وفده، فقد واجه الائتلاف مشكلة انسحاب عدد كبير من أعضائه قبل المؤتمر. وكذلك لم يتمكن من تشكيل وفد يمثل كل أطياف المعارضة وبخاصة هيئة التنسيق التي تشكل حضوراً في الداخل، ولكنه تجاوز كل ذلك بتمسكه بثوابت الشعب السوري. وكان غياب إيران عن المؤتمر موحياً بأنه لن ينجح في الوصول إلى حل، فهي صاحبة قرار فيما يتعلق بمستقبل النظام السوري وهي تخوض إلى جانبه حرباً ضروساً ضد الثورة السورية.

وأما داعمو المعارضة والثورة فهم مشتتون في الرأي، بعضهم يضمر غير ما يعلن، وبعضهم بات يخاف انتصار الثورة السورية ويقلق من احتمال غلبة التوجهات الإسلامية المتطرفة، وبعضهم يخاف حتى من التوجهات المعتدلة التي لا يضمن تحالفاتها المستقبلية.

وقد كان طبيعياً أن يخفق مؤتمر جنيف وسط هذه الخريطة السياسية المعقدة والمتشابكة، والتي تبدأ مساراتها الضيقة من تسامح المجتمع الدولي مع كل الجرائم التي تحدث في سوريا، وكأن مقتل مئات الآلاف وتشريد عشرة ملايين سوري لا يتطلبان أكثر من تصريح يخفف من وخز الضمير الإنساني إذا كانت فيه بقية من حياة.

وإذا كان الموقف الروسي مفهوماً بعد إعلانه عداء رسمياً للأغلبية في الشعب السوري (بحسب تصريحات رسمية تعلن عدم سماح روسيا لأهل السنة بأن يكون لهم حضور في الحكم مستقبلاً في سوريا) ويواكب هذه الصراحة الواضحة موقف إيران، فإن من غير المفهوم موقف الولايات المتحدة ودول أصدقاء سوريا الذين صار همهم أن يحصلوا على قرارات تعالج الوضع الإنساني وتفك الحصار في مجلس الأمن، والعجيب أنهم لم يقدروا على ذلك بسبب laquo;الفيتوraquo; الروسي المرعب!

ويبدو توقف المفاوضات مخيفاً في تصور محتمل للمرحلة القادمة، فالسوريون الذين فقدوا أملهم في الوصول إلى حل سياسي باتوا يخشون أن تكون القوى الدولية تنتظر مزيداً من القتلى ومزيداً من الدمار لإيصالهم إلى حالة من الفظاعة وفقدان القدرة على التحمل يقبلون معها بأي حل يطرح عليهم، ويخشون أن يكون الحل الذي يتم التمهيد له عبر تصاعد العنف هو التقسيم، ولئن بدا الجميع اليوم يرفضون فكرة التقسيم فإن إغراق السوريين بمزيد من الجحيم الذي يعيشون فيه سيجعل بعضهم يجد في التقسيم خلاصاً بوصفه أهون الضررين، وهذا ما نعرفه من التاريخ وحسبنا درس القضية الفلسطينية التي بدأت بإصرار العرب على رفض التقسيم عام 48 وتحولهم بعد المعاناة المريرة إلى حلم بقيام دولة فلسطينية مع اعتراف بحدود 4 حزيران 67، كما أن تجربة البوسنة درس واضح آخر أمام العرب جميعاً.

وبعض السوريين يخشون أن تكون الولايات المتحدة وإيران قد توافقتا على أن يكون التقسيم هو الحل، فهو يضمن لإسرائيل خروج سوريا من معادلات الصراع مع إسرائيل لعقود طويلة، وإلهاء الشعب السوري بصراعاته الداخلية التي لن تنتهي، كما يضمن لإيران إنهاء مشكلاتها مع الغرب، وضمان امتداد نفوذها لعقود أيضاً في الساحل السوري حتى محاذاة إسرائيل. وسيكون سهلاً عقد تحالف مع إسرائيل لأنه لا توجد بينها وبين إيران وحلفائها مشكلات تاريخية!

ولئن طرح التقسيم بوصفه حلاً وحيداً، فإن سوريا لن تهدأ من الحروب الداخلية، وستكون حروب إبادة للأغلبية السكانية التي ستشعر بالظلم التاريخي وهي التي تعالت فوق الطائفية وتفاعلت مع كل الطوائف والإثنيات بروح المواطنة وقبلت لعقود بأن تكون مهمشة كيلا تثير فتنة، وكان همها إصلاح النظام السياسي، وهكذا بدأت تظاهراتها لشهور، ولو أنها لقيت أدنى استجابة لفضلت البقاء مع نظام قابل لتغيير نهجه الأمني، ولكن إصرار النظام على الحل العسكري قاد البلاد إلى الدمار، وليت النظام التقط مناسبة التفاوض في جنيف ليجنب سوريا (الوطن) مصيراً أشد قسوة وضراوة من كل ما حدث على فظاعته.

رياض نعسان أغا