سمير عطا الله

بعض الناس يغيبون ومعهم قطعة منّا وقطعة من بلدهم ومرحلة برمتها. بغيابهم تتغير الأشياء على زمنها، يطرأ نقص خطير على اللغة، تصطك ركبتا الشجاعة وتتضاءل حظوظ التفرد. بعض الغائبين لم يكونوا مضطرين إلى الغياب لكي تعرف معنى ومدى وآثار حضورهم، ولا يزيد الغياب في ألقهم ولا يقلل من الوهج الذي تركوه على الدرب.

في لبنان، كان أنسي الحاج نقيضا للبنان. تمرد على الخداع والخوف والمداهنة ووضاعة السياسة ونفعيات المجتمع ووصوليات الزعماء وضحالة الطبقة الظاهرة. لكنه لم يجير هذا التمرد على حساب أحد. لا إلى حزب ولا إلى رئيس ولا إلى سياسي. عاش وحيدا وعاش في المطلق. نسر يُغرد ولا ينقضّ. حالم لا يفرض أحلامه على أحد. منعزل مبتعد، وفي الوقت نفسه مقبل مندفع منشغل وشاهر الصدق والغضب والنقاء وصلابة المثل الإنسانية.

كان يسمّى شاعرا لكن نثره كان أرفع من لغة الشعر. كل مفردة إيقاع. كل فكرة وصلة. كل صرخة قافية. كان عزفا منفردا على الأدب وعلى الحياة. عاش في قلب الصحافة وطياتها وورقها، وظل خارجها وخارجا عليها. لم يتنازل لها عن شيء ولم يساوم معها على شيء. كانت موئله وعدوته. ينفر من فوضاها ويومياتها وزواليتها وسرعة انقضائها من يوم إلى يوم، كأنها مفكرة تكتب على سطح نهر. على الرغم من موقعه فيها منعها جازرا حاسما من أن تدفع به إلى أي سياسي أو أي سياسة. كرئيس لتحرير laquo;النهارraquo; أغلق بابه ومنع أيا كان من إضاعة وقته أو وقت الجريدة. لم يقبل دعوة، ولم يعتذر عنها. لا علاقة له بالعالم الخارجي أو المجتمع الطفيلي.

حياته نفسها كانت أهم قصائده. العلاقة الوحيدة التي ارتضاها وارتضى سطوتها وأحكامها كانت علاقته مع المرأة. وحدها كانت الكائن الذي ارتضى معه الشراكة بموجب عقد دائم. وفي هذا العقد تنازل علنا عن حقه في أن يكون الفريق الأول. أو حتى أن يكون فريقا. اكتفى بأن يكون laquo;الموقّع أدناهraquo;، والتوقيع كان بصمة الإبهام لكي يحرم نفسه من فرصة الإنكار.

تأثر جيل لبناني كامل بأنسي الحاج، كاتبا وصحافيا ومتمردا. وفي حواراته القليلة، أو النادرة، أقر بعلاقة روحية وإنسانية وlaquo;وطنيةraquo; وفكرية واحدة، هي صداقته مع الأخوين رحباني وفيروز. خارج الثلاثة لم يشتمّ أثرا لأحد فيه، حتى والده، الذي كان رئيس تحرير laquo;النهارraquo; قبله، كما كان من أبرز أساتذة المهنة.

ظل حتى أيامه الأخيرة يكتب عن فيروز بشيء من الانسحاق أمام شعاعها الفني والشخصي. وخارج المدار الرحباني، ظل في غاية نفسه الجميلة وتراثه الثقافي والأدبي وتلك الصلابة النفسية التي حمته من ضياع الوقت والذات.