راجح الخوري

أطلق تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة موجة من الترحيب الإقليمي والدولي إلى درجة أن مجلس الأمن أصدر بيانا ناشد فيه الشعب اللبناني التمسك بالوحدة الوطنية، داعيا كل الأحزاب إلى احترام سيادة لبنان وعدم التدخل في الأزمة السورية.

ليس مألوفا أن يثير تشكيل الحكومات هذا الترحيب الواسع، لكنه ليس تعبيرا عن الارتياح لتشكيل الحكومة بعد عشرة أشهر من العقد والعراقيل، بمقدار ما هو تعبير عن القلق من تآكل انتظام سلطات الدولة اللبنانية ومؤسساتها على خلفية الانقسام بين 8 و14 آذار، وقد فاقم من الأمر تدخل laquo;حزب اللهraquo; في المعارك إلى جانب النظام السوري ما يهدد بنقل النار إلى لبنان، خصوصا بعد سلسلة عمليات التفجير الإرهابية المتلاحقة.

هذا التدخل عقّد عملية تشكيل الحكومة كل هذا الوقت وبدا لبنان وكأنه يقف عند بوابة الدولة الفاشلة، فقد تم التمديد لمجلس النواب المعطّل واقترب موعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية بينما السلطتان التشريعية والتنفيذية في حال من الشلل.. على خلفية هذا بدا تشكيل الحكومة وكأنه فتح كوّة في الجدار المقفل على انقسام عميق، يمثّل امتدادا للصراع الإقليمي والدولي على النفوذ، وتقاطعاته في الحرب السورية التي تسترهن لبنان. ولكن ما الذي أدى إلى الاتفاق على حكومة laquo;المصلحة الوطنيةraquo; وكيف تلاقت المواقف المتعارضة في نظرتها إلى هذه المصلحة؟

هناك شبه إجماع في الوسط السياسي على أن ما ساهم في الخروج من مأزق تشكيل الحكومة هو مجموعة من الاستحقاقات الداخلية والتطورات الإقليمية، إضافة إلى تفاهم دولي على منع امتداد النار السورية إلى لبنان، الذي بطبيعة نسيجه الطائفي يمكن أن يشكل صاعقا لتأجيج الصراع المذهبي في المنطقة كلها ومنها:

اقتراب موعد الاستحقاق الرئاسي الذي يحتّم تشكيل الحكومة منعا للفراغ المطلق، وخصوصا إذا لم يجر انتخاب الرئيس وآلت صلاحياته إلى حكومة مستقيلة وفي وجود رئيس حكومة مكلّف، أضف إلى هذا أن الفراغ سيزيد من تداعي الأوضاع الأمنية، التي فرضت حالا من الحصار المزعج على مناطق بعينها محسوبة على laquo;حزب اللهraquo;، الذي تخلّى أخيرا عن نظرية laquo;الثلث المعطّلraquo;، التي سبق أن فرضها وتمسك بها منذ اتفاق الدوحة عام 2008، واستعملها للتحكّم ببقاء الحكومة أو إسقاطها على غرار ما حصل عندما أخرج laquo;14 آذارraquo; من السلطة عبر إسقاط حكومة سعد الحريري بداية عام 2010.

قبل أقل من شهرين كان السيد حسن نصر الله يرفض التخلي عن الثلث المعطّل في حين كانت laquo;14 آذارraquo; ترفض الجلوس في حكومة واحدة مع laquo;حزب اللهraquo; المنغمس في الحرب السورية، والذي يواجه أربعة من عناصره الاتهام أمام المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ولكن مع تشكيل الحكومة على قاعدة التساوي في الحصص، أعيد التوازن إلى تقاطعات النفوذ الإقليمي في السياسة الداخلية بعدما حاولت إيران وسوريا إبعاد الدور السعودي عندما أفشل الأسد نظرية laquo;السين - سينraquo; نهاية عام 2010.

إن المؤشرات الواضحة لفشل مؤتمر laquo;جنيف 2raquo; وما سيرتبه من تصعيد ميداني سيزيد حتما من تورط laquo;حزب اللهraquo; في الرمال المتحركة، كما سيزيد من التهديدات الإرهابية والعربات المفخخة العابرة الحدود، هو ما حتّم على الحزب قبول السعي إلى إعادة ترتيب الساحة الداخلية ومنع الانزلاق أكثر إلى العجز والفراغ، فلم يعد من معنى للثلث المعطّل الذي طالما اعتبر laquo;الثلث الضامنraquo;، خصوصا أن المواطن اللبناني لم يعد قادرا على ضمان عودته سالما إلى بيته، ومع الإعلانات الواضحة عن توافق دولي واسع على العمل للحيلولة دون أن يتحوّل لبنان إلى ساحة للصراع بين السنّة والشيعة، وكذلك مع الإعلان عن الهبة السعودية الكبيرة لدعم الجيش اللبناني بات من المحتم ولادة حكومة laquo;المصلحة الوطنيةraquo;!

إن انخراط إيران في المفاوضات النووية مع الدول الغربية وما تمليه هذه المفاوضات بالضرورة من تصحيح أداء سياسي سيطبع حتما سلوكيات طهران في الإقليم، ويدفعها إلى أن تتحوّل جارا متعاونا بدلا من أن تبقى عنصر تدخل وتخريب في الشؤون الداخلية للآخرين، على أساس هذا أيضا ليس مستغربا التخلي عن نظرية الثلث المعطّل التي أسقطت الحكومات اللبنانية وشلّت عملها!

إن القراءة السياسية في الاستحقاقات الداخلية الحساسة وفي العوامل الإقليمية المتسارعة، وخصوصا في سوريا، ساهمت في إذابة بعض من جليد laquo;8 آذارraquo; وlaquo;14 آذارraquo;، بما فتح كوّة في الجدار السميك عبرت منها حكومة تمام إلى الامتحان الصعب، أي عقدة ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة، التي ترفضها laquo;14 آذارraquo; فإن لم تتجاوزها سينتقل لبنان من حكومة تصريف أعمال إلى حكومة تصريف أعمال؟!