رشيد الخيّون

طرقت جحافل الإرهاب، وما زالت، نواحي محافظة ديالى (شرق بغداد) كافة. اشتدت عليها حملاته بين2006 و2008، فذُل أهلها، وليس أذل من ترك الدار إجباراً. كان لبهرز، أُم البرتقال والليمون، الحصة الأكبر منها، وبعزيمة أهلها تمكنت من تحرير بساتينها من قوى الظلام laquo;القاعدةraquo;. لكن ما حصل فيها مؤخراً (22 مارس 2014) عاصفة سموم طائفية هبت عليها، والحصيلة حرق مساجد وقتل أبرياء.

بات أهل بهرز لا يميزون بين قاتلهم وحاميهم، هذا ما يتضح من تسجيلات شهود عيان، ومن ذوي المقتولين والمسلوبين، الذين أشاروا إلى جريمة laquo;شنعاء مظلمة يشيب من هولها طفل وأكبادraquo;. ارتكبها بحق الأهالي غرباء عنها. هل ما حصل لتصفية حسابات، وليس ببهرز من يُصفى الحسابُ معه؟ ومَن أتى بإشارة على أن ما حصل كان محاولة توريط للخصوم السياسيين؟ ونحن نسأل: أين غاب صوت laquo;الدم بالدم وأنا ولي الدمraquo;؟

ليس أجمل من بهرز، فبعد اجتياز الجسر، العابر نهر ديالى، ترى على يمينك البرتقال يتدلى من أغصانه كالقناديل، تحت جنات النخيل. إنها بهرز: لون برتقالة وظل نخلة. ومثلما كانت بضاعة شهربان الرُّمان فبضاعة بهرز الحمضيات. حتى تبدو ديالى بنواحيها الخصبة سلة فاكهة، هذه هي طبيعتها منذ القِدم، ومازال نهرها جارياً فالبساتين عامرة. أما برتقالها فكأن محمد سعيد الحبوبي (ت 1915) كان يخاطبه: laquo;عارض الشَّمسَ جبيناً بجبين/ لنرى أيكما أسنى سناraquo;.

ليس أكرم من أهل بهرز وثقافتهم، فهذه الناحية الصغيرة قدمت بهرزيين في الشعر والأدب والفكر، ويكاد لقب البهرزي يقترن بالثقافة والتحضر. نقول هذا عن قرب ومعاشرة، لذا عندما نسمع بسحب الآباء والأبناء مِن منازلهم، وقتلهم بدم بارد، تتعطل لغة الكلام عن الوصف، ففيها laquo;من الظلم ما تعيي به الكلماتraquo;.

ظلت بهرز خلال العهد الملكي (1921- 1958) وما بعده، بفترة طويلة، قريةً تتبع مركز لواء أو محافظة laquo;بعقوبةraquo;، لكنها ليست كبقية القرى، لشهرتها ببساتينها وببشرها. لم نجدها بين الوحدات الإدارية في الدليل العراقي الملكي (1936)، ولا الدليل العراقي الجمهوري (1960)، بينما اسمها تردد كثيراً خلال الحروب بين عساكر العثمانيين والصفويين. مثلا: laquo;عبر نادر قلي من بهرز في أول أسبوع مِن كانون الثاني 1733 فجرت له مناوشات طفيفة مُزقت فيها قوة تركية ضعيفةraquo; (لونكريك، أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث).

كيف لا، وهي تقع قريباً مِن حافة الطريق الواصلة بين بغداد وخراسان، حتى سميت بوابة بغداد المدورة، النافذة إلى جهة الشرق، حيث بهرز، ببوابة خراسان (اليعقوبي، كتاب البلدان)، والنهير الذي يجري قريباً من بهرز يدعى laquo;خريسانraquo;، وكم غارات مرت في هذا الطريق وعبرت النهر إلى ديالى وسط بساتينها، من زمن الأكاسرة وحتى فتوحات الشرق، إلى رايات العباسيين السود وجحافل المغول.

اشتهرت معظم بلدات العراق وقراه خلال الحوادث التي عقبت 2003، من قتل وسلب وتهجير طائفي، وكانت بهرز وبقية بلدات محافظة ديالي الأكثر تداولا، بعد الفلوجة، حتى صار اسم laquo;هببraquo; معروفاً في الأمم المتحدة بعد قتل أبي مصعب الزرقاوي فيها (2006). ولا نبحث في اسم هبب وبهرز وشهربان ترفاً إنما التاريخ يحتاج لهذه المعرفة، ولا يكفي أن يُسجل الحدث بلا ذاكرة المكان، والاسم في المقدمة.

من الأقوال في اسمها أنها نشأت والمدائن (قديماً طيسفون) في وقت واحد، وحسب مصطفى جواد (ت 1969) بناهما القائد الكسروي laquo;بوه وهرزraquo;، ونسبت إليه، ثم صحفت إلى laquo;بوهرزraquo; فـ laquo;بهرزraquo; (بابان، أُصول أسماء المدن العراقية). لكن ما يؤخذ على هذا الرأي: لماذا بهرز نُسبت لمنشئها، وهي ليست بأهمية المدائن؟ أما توفيق وهبي (ت 1958) فيربط الاسم بطبيعة المكان، فهو مركب مِن (به) و(روز)، والأولى صفة معناها laquo;طيب، جيد، خيرraquo;، والثاني معناه: laquo;نهار، يومraquo; (المصدر نفسه).

كان هذا المعنى لقباً لرجل متنفذ في العهد العباسي، تولى الشّحنة أو الشّحنكية (والي الشّرطة والأمن) ببغداد، وصاحب إقطاعيات بتكريت وغيرها، اسمه: مجاهد الدين بَهروز الغياثي، وقد ظل والياً لشحنتها من 502 هـ وحتى وفاته 540 هـ (ابن الأثير، الكامل في التاريخ). هذا، ونلمح في laquo;معجم البلدانraquo; لياقوت الحموي (ت 626 هـ) ناحيةً مِن نواحي سواد بغداد قرب المدائن اسمها: laquo;بَهر سيرraquo;. أقول: ألم يكن الاسم بهرز مصحفاً عن ذلك؟

أياً كان اسمها، نسبة لمنشئها laquo;بوه وهرزraquo; أو لطيبها، أو لمدير شرطة بغداد، أو مصحفة من laquo;بهر سيرraquo;، تبقى بهرز مرتبطة ببرتقالها وبظلال بساتينها وطيبة أهلها. أتذكر زرنا بهرز (1976)، وذهبنا إلى دار صديقنا كرم جاسم، سألنا والدته، فقالت: إنه موجود، تفضلوا وسيأتي بعد قليل، وكانت غايتها أن نتناول الغداء ثم تخبرنا بسفره. لم تسأل أم كرم، وهي تستضيفنا، أكنا من أبناء ذوي سابلي الأيدي أم من الضامين. لهذا أرى من يساوي طائفية اليوم بطائفية الأمس غير منصف، فاليوم غدا اجتياح وتنافر حاد ومراقبة لوضع الأيدي عند الصلاة، أما الأمس فأخذ الأثر العثماني الصفوي بالانقراض.

لا أظن أن الجريمة التي هزت بهرز ستُكشف، فأي الجرائم الجسام كُشفت؟ من المسؤول عن ترويع أهلنا ببهرز؟ من هؤلاء الذين خرجوا فرحين بصيدهم؟ أليست السلطة مسؤولة عما جرى، فبيدها العير والنفير، وتبحث عن ولاية ثالثة، وبلا خجل من جريان الدم وتراكم الفساد؟ ماذا فعلت الاجتياحات العسكرية، وصولة المعركة حسب ما جاء على لسان رئيس وزراء العِراق، نعم العِراق كافة: laquo;بين الحسين ويزيدraquo;؟!

بهرز التي كنا في أوائل السبعينيات نقضي الليل وسط بساتينها لا نخشى ظلمة ولا سلطة، فالأخيرة كانت تكتفي بملاحقة من يعارضها، والظلمة يبددها لون برتقالها. صار البهرزي يتحمل وزر ما كان بين يزيد والحسين، بأثر رجعي مداه (1374 عاماً)، إذا علمنا أن الحسين قُتل (61 هـ)، مثلما يُراد لبقية العراقيين تحمل تفعيل ما كان بين العثمانيين والصفويين من ضغائن.

لا تتعجبوا، قضية بهرز غير منفصلة عما يجري من مشروع ظلامي مروع، فالبقاء على العنف يضمن بقاء الفاسدين وبه تتجدد الولاية. لعمرو بن الأَهتم (ت 57 هـ): laquo;لعَمرك ما ضاقت بلاد بأهلها/ ولكن أخلاق الرجال تضيقُraquo; (المرزباني، معجم الشعراء). فإذا ضاقت أخلاق الرجال فلا تبقي رائحة الدم ببهرز عبقاً لرائحة البرتقال!