رياض نعسان أغا

مفجع أن يعتاد الناس أخبار الموت والقتل فلم تعد صور المجازر تثير دهشة أو قلقاً أو تعاطفاً، ولم تعد نشرات الأخبار تحمل مفاجأة ما لملايين السوريين المترقبين لأي تحول في مسارات الفواجع، لا شيء سوى الموت والعنف والدمار، واقتتال لا نهاية له ولا منتصر فيه، والمفجع الأكبر أن الثورة التي ولدت بالبراءة والطهر وهي تنادي بالإصلاح والحرية والكرامة، أغرقها الدم، فقد أصر النظام من بيانه الأول على وشم ما يحدث بأنه مؤامرة كونية، وأن ما يحدث هو مواجهة عصابات إرهابية، حتى تحقق ما أراد وتمكن من جعل المعركة حرباً تعلو فيها أصوات الطائفية البغيضة، وتملأ ساحاتها عصابات إرهابية، وربما صح القول إن السحر انقلب على الساحر، فقد أراد أن يخرج مارد الإرهاب من القمقم ليثبت للناس أنه يواجه إرهاباً، ولكنه فقد القدرة على إعادته إلى عنق الزجاجة.

وحين اعترضنا على الحل الأمني العسكري وطالبنا بحل سياسي منذ البداية، كنا ندرك أن الدم يجر الدم، وأن الدم لا يلتم، وأن العنف يجلب مزيداً من العنف، لكن صقور النظام أصروا على أن الحل لا يمكن أن يكون إلا بالقوة العسكرية وبالعنف المضاعف، وعلى رغم أنني شخصياً لم أكن من دعاة الثورة، وإنما كنت من دعاة التغيير، فقد قلت مرات، إن الثورة السورية وجدت مبرراتها القوية بعد قيامها بسبب ما لقي المتظاهرون من عنف، ولو أن الإصلاحات الطفيفة التي حدثت بعد شهور طويلة جاءت في وقتها لكان من الممكن أن تتجنب البلاد هذا المصير الفادح. وعلى رغم كل ما حدث لم يقم أحد من عساكر النظام بمراجعة الموقف، وكان جديراً بعد ثلاث سنوات دموية جرت كوارث غير مسبوقة أن تدرس نتائج الحل الأمني، وأن يرى دعاته مدى نجاحه، ويتأمل ما أنجز، وسيرى أنه لم ينجز سوى تدمير سوريا، وتحويل نصف شعبها إلى شهداء ومقتولين ومفقودين ومعتقلين ومشردين ولاجئين ونازحين ومتسولين في شوارع العالم، ولن يصدق أحد أن هؤلاء العشرة ملايين سوري هم إرهابيون يستحقون ما نالوا من عقاب.

وكنت أتوقع بحسن ظن أن يجد النظام في مفاوضات جنيف مخرجاً له وللشعب، ولكنه أصر على توصيف ما يحدث بأنه حرب على الإرهاب وأن الذين طالبوا بالحرية والكرامة هم متآمرون يريدون إسقاط النظام، لأنه سيحرر الجولان والقدس، وقد تجاهل النظام فواجع ملايين السوريين الذين يتعرضون لظروف غير إنسانية فاقت كل ما تحمله البشر في حروب بين الأمم، ولا مثيل لها في الحروب الأهلية، فلم نسمع من قبل أن نظاماً يقصف شعبه قصفاً عشوائياً بالبراميل المتفجرة التي لا تميز بين معارض ومؤيد أو بين مقاتل وطفل رضيع، والمفجع أن ضمير العالم لم يتحمل استخدام الأسلحة الكيماوية ولكنه يتحمل ببرود انهيار الأبنية السكنية فوق أجداث سكانها، كأن الاحتجاج كان على السلاح وليس على الجريمة ذاتها.

والمريع اليوم هو هذا الصمت الدولي المريب، كأن قادة العالم يريدون أن يصفي السوريون بعضهم بعضاً وأن يدمروا بلدهم بأيديهم، وأن ينتصر الدمار وحده في النهاية، وألا يرث الذين سيبقون على قيد الحياة سوى الفواجع التي ستدفعهم إلى مزيد من الثأر والانتقام. ولعل من يخططون يريدون ألا يجد السوريون خلاصاً مرحلياً غير التقسيم، وهو إن حدث سيشغل دول الطوائف عقوداً في حروب عبثية، فلن تنهي طائفة طائفة أخرى، وسيجد الجميع من يمولهم ويمنحهم السلاح كي تبقى سوريا ساحة حرب ودمار وتعود بناها التحتية إلى العصر الحجري.

وتفاؤل النظام بالنصر على الشعب وبأنه سيخرج من المحنة أقوى مما كان كما خرج من قبل من محنة الثمانينيات يدل على رؤية قصيرة المدى، فالدول لا تبنى على القهر والظلم والطغيان، ومحال أن يعود الشعب إلى بيت الطاعة وحظيرة الخنوع بعد أن دفع من الأثمان ما تجاوز الملاحم الأسطورية، ولن تحل القضية عبر الحروب، فلابد من حلول سياسية منصفة وعادلة، ولابد من تغيير جذري في رؤية النظام، ولابد له كي يواجه الإرهاب من أن يفرق بين المعارض الوطني الذي رفض القتل والدمار وبين الإرهابي الذي جاء من أقصى الأرض ليزيد النار اشتعالاً. والمفارقة المدهشة أن النظام يعتبر كل من رفض الحلول العسكرية وطالب بالحلول السياسية حتى عبر كتابة مقال كهذا المقال، إرهابياً تجب محاكمته أمام محكمة قضايا الإرهاب، وبمثل هذه الرؤية سيتجاوز عدد المتهمين بالإرهاب عشرة ملايين من السوريين في الحد الأدنى، ويبدو مريعاً أن ينتهج النظام فلسفة طالما أنكرها ووقف ضدها حين أعلنها الرئيس الأميركي بوش السابق laquo;من ليس معي فهو ضديraquo;، فجعل الناس ضده، وبات يعتقل حتى من يكتبون تعليقات هامشية ترفض سفك الدماء وتنتقد حلول النظام العسكرية على صفحات التواصل الاجتماعي.

ولقد بدا مفجعاً تراجع الموقف الدولي من القضية السورية، وتوجهه إلى عدم الاهتمام الجاد بإيجاد حلول، وكان مفجعاً أكثر أن تفشل المعارضة السورية في توحيد خطابها، وجمع شملها على رغم أنها انعكاس للموقف الدولي المضطرب ذاته، وكنت أتمنى أن يجد قادة المعارضة حلولاً وسطاً مع إيران وروسيا فليس من مصلحة السوريين أن تبقى هاتان الدولتان عدواً لهم، ولاسيما بعد أن بدا الموقف الأميركي والأوروبي ضعيفاً ومهتزاً ولا يهتم إلا بمصلحة إسرائيل وحدها، كما أن انفلات المشاعر الشعبية العامة نحو التكتل الطائفي وتحويل الصراع إلى تنابذ مذهبي جعل كثيراً من الناس ينفضون ويبتعدون. وعلى قادة المعارضة أن يبذلوا جهوداً إعلامية أكبر لإعادة بوصلة الثورة إلى أهدافها الصحيحة وهي الحل السياسي الضامن لبناء دولة مدنية ديمقراطية، فالثورة لم تقم من أجل بناء دولة خلافة إسلامية أموية أو عباسية أو عثمانية، وقد أساء دعاة (داعش وحالش معاً) للإسلام حين قدموا صوراً إرهابية جعلت أعداء الإسلام يقدمونها شواهد على أن الإسلام دين عنف وإرهاب كما يروّجون، وضاعت الأهداف الوطنية عند أصحاب الرايات التاريخية التي يدعو بعضها لمحاكمة يزيد، وبعضها الآخر يدعو لبدء عصر فتوحات جديد، ولاسترداد الأندلس بينما ملايين السوريين يبحثون عن بلد لجوء أو عن تجديد جواز سفر.