محمد السعيد ادريس

ما كان لبنان ينتظر ربيعاً سياسياً . الطوائف والطائفية كفيلة بجعله مستحيلاً . لبنان كان ينتظر ربيعاً اجتماعياً بفضل القوى والجماعات والنقابات، بقيادة هيئة التنسيق النقابية، التي نجحت في إطلاق انتفاضة اجتماعية عابرة للطوائف ربما للمرة الأولى في تاريخ البلاد المعاصر . لكن quot;تحالف السلطة والمالquot;، كما وصفته صحيفة quot;النهارquot; المحافظة، quot;انتصر وحصدت هيئة التنسيق النقابية ومعها ألوف الموظفين والعسكريين والمتقاعدين والمتعاقدين دفعة جديدة من الخيبةquot; .

ماذا حدث؟


حدث، باختصار، أن تحالف السلطة والمال كان، وما زال، أقوى من القوى الاجتماعية المناوئة له . السلطة، في هذا السياق، ليست الحكومة بل الشبكة الحاكمة المكونة من متزعمين في طوائف، ورجال مال وأعمال، وقيادات متنفذة . هذه الشبكة، وهي سلطة حقيقية عابرة للطوائف شأنَ القوى الاجتماعية المناوئة لها، استطاعت إزالة ما علق بجسمها وممارستها من اختلافات ومماحكات وتوحيد صفوفها في وجه ما اعتبرته خصماً لسيطرتها وللبلاد معاً .
عودة الوفاق (المؤقت أو الطويل الأمد؟) بين أطراف الشبكة الحاكمة له أسباب وبالتالي تداعيات . لعل أول الأسباب وأهمها أن كتلة أصحاب المصارف، وهي أقوى الأطراف، هالها أن تتضمن الإصلاحات الضريبية التي انطوى عليها المشروع المعدّل لسلسلة الرتب والرواتب زيادةً في الضريبة على ربح فوائد الودائع المصرفية من 5 إلى 7 في المئة . الأخطر، في نظر أصحاب المصارف، أن زيادةً في الضريبة قد طاولت أيضاً توظيفات المصارف في سندات الخزينة لدى مصرف لبنان المركزي، كما أن غرامات عالية نسبياً اتجهت كتل برلمانية متعددة إلى الموافقة على فرضها على محتلي الأملاك العامة البحرية، وجلهم من أصحاب الرساميل والمتعاملين بقروض بملايين الدولارات مع كبرى مصارف البلد .


غير أن المفاجأة لم تكن في عودة أطراف تحالف السلطة والمال إلى التوافق والاتحاد بل بتصدّع قوى 8 آذار . فقد صوّت نواب quot;تكتل الإصلاح والتغييرquot; (بقيادة العماد ميشال عون) إلى جانب تكتل 14 آذار المكوّن من حزب quot;المستقبلquot; (سعد الحريري) وحزب quot;القوات اللبنانيةquot; (سمير جعجع) وحزب quot;الكتائبquot; (أمين الجميل) ومجموعة من النواب الموالين لهم، ناهيك عن quot;جبهة النضال الوطنيquot; الوسطية (وليد جنبلاط)، حاصدين أكثرية ناهزت 65 نائباً مؤيدين قراراً يقضي بتأجيل بت مشروع سلسلة الرتب والرواتب وتشكيل لجنة مختلطة من بضعة وزراء ونواب وحاكم مصرف لبنان المركزي واختصاصيين للتدقيق في صدقية أرقام الواردات والرسوم التي كانت وُضعت من أجل تغطية تكلفتها، ومنحها مهلة 15 يوماً لإعداد تصوّر جديد لها تمهيداً لإعادة مناقشتها .
اللجان، في التقاليد البرلمانية، مقبرةُ المشاريع والقوانين . هذا يعني أن تحالف السلطة والمال نجح في دفن مشروع سلسلة الرتب والرواتب . قد لا يتمكّن مجلس النواب من معاودة النظر فيه قبل انتهاء ولاية رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان في 25 مايو/ أيار المقبل .
صفقة تأجيل البت بالسلسلة وإمكانية quot;تطييرهاquot; ما كانت لتتم لولا انحياز quot;تكتل الإصلاح والتغييرquot; بنوابه ال 27 إلى قوى 14 آذار المناهضة، تقليدياً، لمطالب العمال والأجراء وذوي الدخل المحدود . لماذا فعلها التيار العوني؟ أليس أمين سر كتلته النيابية رئيس لجنة المال البرلمانية النائب إبراهيم كنعان هو مَن تولّى تدقيق مجموعة الرسوم والضرائب المقترحة لتغطية نفقات السلسلة، وهو مَن وضع مشروعها في نسخته الأخيرة؟
ثمة أسباب وتبريرات عدة قُدمت في هذا المجال . لكن أكثرها مدعاة للارتياب هو القول إن انحياز العونيين إلى جانب قوى 14 آذار هو لون من ألوان المقبّلات التي وضعها العونيون على مائدة استمالة الآذاريين للتصويت لعمادهم في انتخابات الرئاسة .


من الصعب حالياً تقويم الأثر السياسي للانحياز العوني إلى قوى 14 آذار لدى حلفائهم في قوى 8 آذار . فقد وقفت quot;كتلة الوفاء للمقاومةquot; وquot;كتلة التحرير والتنميةquot; (نبيه بري) إلى جانب هيئة التنسيق النقابية وحلفائها، وحدد موقفهما النائب علي فياض بقوله: quot;إن الضرائب المقترحة لا تحمّل الطبقات الفقيرة أي زيادة، وإذا اطلعنا على جدول الإيرادات نخلص إلى أننا نجحنا في عدم زيادة حجم الدين العامquot; .
هذا الكلام لم يقنع زعيم كتلة quot;المستقبلquot; البرلمانية فؤاد السنيورة الذي أصرّ على تأجيل البت بالسلسلة بانتظار المزيد من البحث والتدقيق، محذراً من quot;العودة إلى الممارسات العشوائية والزبائنية والتخلي عن الرهانات الماليةquot; .
هكذا بعد 25 شهراً من الدرس والتمحيص في مجلس النواب واللجان البرلمانية، أقرّ المجلس مجدداً تأجيل البت بالسلسلة لمدة 15 يوماً بانتظار ما ستقترحه لجنة مختلطة خاصة جرى تشكيلها لهذه الغاية . لكن اللجنة لن تتمكن من تقديم اقتراحاتها قبل الأسبوع الثاني من شهر مايو/ أيار المقبل، أي عشية مدة الأيام العشرة الأخيرة من المهلة الدستورية التي يحق خلالها لمجلس النواب أن يجتمع حكماً من دون دعوة من رئيسه لانتخاب رئيس الجمهورية الجديد .
هيئة التنسيق النقابية وأنصارها من الموظفين والعسكريين والمعلمين والإجراء والمتقاعدين لا تهمهم انتخابات الرئاسة . ذلك أنهم يعتبرون معظم النواب والوزراء والرؤساء أبناء طبقة اجتماعية واحدة معادية أو، في الأقل، غير مكترثة بهم . لذلك سيثابر هؤلاء جميعاً على طرح مطالبهم بقوة متوسلين الاعتصامات والإضرابات والتظاهرات، وقد باشروها فعلاً في منتصف الأسبوع، وليس ثمة ما يشير إلى أنهم سيتوقفون قبل نيل مطالبهم .
في المقابل، يظن تحالف السلطة والمال أنه، مع المباشرة في عقد جلسات البرلمان لانتخاب الرئيس الجديد، سينشغل الناس جميعاً عن السلسلة بمنافسات المرشحين الرئاسيين وأضوائهم، فتنحسر موجة المطالب الاجتماعية ويتقلص عدد المشاركين في التظاهرات المطلبية .


لرئيس مجلس النواب نبيه بري رأي آخر . فقبل دقائق من رفع جلسة المجلس ليلة الأربعاء الماضية، توجّه إلى النواب والوزراء قائلاً: quot;أتمنى ألاّ يكون هذا اليوم ظالماً في تاريخ مجلس النوابquot; . ليس في تاريخ مجلس النواب فحسب بل في تاريخ جمهورية متزعمي الطوائف أيضاً .