سليم نصار

عرضت صالات السينما في بيروت وطرابلس عام 1958، فيلماً طريفاً اشترك في بطولته طوني كيرتس وهاري باليفونتي تحت عنوان laquo;التحدي الكبيرraquo;. ويروي الفيلم حكاية أسيرَيْن نجحا في الهرب من السجن، على رغم الأصفاد التي تغلل يديهما وتعيق ابتعاد الواحد عن الآخر. وهكذا اكتشفا، وهما يركضان هرباً من رجال الشرطة، أن حريتهما مقيّدة عملياً برباط معدني. لذلك اتفقا على البحث عمّن يحطم أصفادهما بحيث يستطيع كل واحد منهما مواصلة طريقه على نحو مستقل.

ولوحظ في حينه أن إقبال اللبنانيين على مشاهدة ذلك الفيلم كان مرتبطاً بالتمزق السياسي الذي أبعد تيار الناصريين عن تيار حلف بغداد بزعامة الرئيس كميل شمعون وسامي الصلح.

ومثل ذلك الانشطار السياسي والعقائدي ينسحب على الوضع القائم في لبنان اليوم. خصوصاً أن جماعة 14 آذار افتتحت البازار الانتخابي بالحديث عن حاجة لبنان إلى رئيس laquo;قويraquo; يعيد الاعتبار إلى الطائفة المسيحية المهمّشة، وإلى قصر بعبدا الذي جرّده اتفاق الطائف من الصلاحيات المعطاة له في دستور 1926 وميثاق 1943.

في إحدى جلسات طاولة الحوار، حاول الرئيس ميشال سليمان عرض استراتيجية وطنية للدفاع مستوحاة من الدستور والقوانين ومستلزمات العيش المشترك وقرارات الشرعية الدولية. وتوقع الرئيس أن يحلّ العرض الذي طرحه إشكالية سلاح laquo;حزب الله.raquo;

ولكن كيف؟

جاء في اقتراح رئيس الجمهورية: laquo;ضرورة التوافق على الأطر والآليات المناسبة لاستعمال سلاح المقاومة ولتحديد إمرته، ولإقرار وضعه بتصرف الجيش المولج حصراً باستعمال عناصر القوة، وذلك لدعمه في خططه العسكريةraquo;.

في تعليقه على اقتراح الرئيس، تحدث في حينه باسم 14 آذار النائب بطرس حرب، الذي اعترض على اعتراف الرئيس بالمقاومة كجسم مستقل عن الدولة.

وفي رده على العرض الذي تقدم به الرئيس ميشال سليمان، قال المتحدث باسم laquo;حزب اللهraquo; إنه laquo;مهما ازدادت أهمية الجيش فلن يتمكن من كسر العدو، لأن الشعب هو المدافع الأول عن الوطن. والمجتمع المقاوم هو الأساس في الاستراتيجية الدفاعيةraquo;. وكان بهذا الكلام يحدد مهمات الجيش المدافع عن الدولة ومؤسساتها... ومهمات المقاومة المدافعة عن الشعب الذي انبثقت منه.

ويرى الفريق المحايد أن تنفيذ رؤية الرئيس يحتاج إلى إلغاء الطائفية السياسية كما تنص المادة 95 من الدستور. وعندها فقط تنتقل مقاومة laquo;حزب اللهraquo; من القوقعة المذهبية، كحزب يقتصر تكوينه على الشيعة، لتصبح مقاومة وطنية مشَكَلة من مختلف أطياف المجتمع اللبناني وطوائفه المتعددة.

ويرى المراقبون أن التطورات السياسية والعسكرية التي حدثت في سورية، خلال السنوات الثلاث الماضية، قد حسمت هذا الإشكال المزمِن لمصلحة laquo;حزب الله.raquo; والسبب أنه تدخّل في الوقت الحرج لإنقاذ النظام وتغيير ميزان القوى على ساحات المعركة. وهو حالياً يستعد للإشراف على عملية إعادة انتخاب الرئيس بشار الأسد في منتصف حزيران (يونيو).

ومن المتوقع أن يختار laquo;حزب اللهraquo; فريقاً مدرباً وموثوقاً لملء الفراغ الذي سيتركه قائد laquo;فيلق القدسraquo; قاسم سليماني، الذي نقلته طهران إلى العراق لدعم مرشحها نوري المالكي.

وفي رأي المحللين، فان إدارة باراك أوباما تُعتَبر المسؤولة الأولى عن بقاء نظام بشار الأسد، بسبب الخلافات القائمة بين وزير الخارجية جون كيري ووزير الدفاع تشاك هيغل. فالأول يستند في موقفه الصدامي إلى توصيات الجنرال ديفيد بترايوس الذي شغل منصب قائد القوات في العراق وأفغانستان. وكان يسعى إلى تنفيذ خطة تسليح مقاتلي المعارضة السورية، إلى جانب توسيع تدريبهم. كذلك طالب بضرورة تحديد أماكن محظورة للطيران، كالتي تقررت في حرب العراق.

وزير الدفاع هيغل، عارض مطالب زميله لأنها، في نظره، تورط بلاده في حرب إقليمية مكلفة كالحرب التي أغرقت الجيش في معارك الاستنزاف داخل العراق وأفغانستان. وقد وجد هذا الموقف السلبي تأييداً من رئيس الأركان الجنرال مارتن ديمبسي، الذي ادّعى بأن الاشتراك في الحرب السورية سيكلف الخزينة الأميركية خمسين مليون دولار يومياً. ووصفها بأنها حرب بلا نهاية كونها تستمد استمرارها من اندفاع روسيا وإيران.

بين هذين الموقفين المتعارضين، اتخذ الرئيس أوباما موقفاً متحفظاً انتهى بالمصادقة على تزويد ثوار سورية بسلاح نوعي متطور ضد الدبابات، وتوسيع خطة التدريب لمئة مقاتل كل شهر. وقد وافقت الإدارة الأميركية على زيادة العدد إلى ستمئة كل شهر، على أن يتم تدريبهم في الأردن وقطر.

منذ أسبوعين نُشرت على الإنترنت أفلام تُظهِر الثوار في سورية وهم يحملون صواريخ متطورة مضادة للدبابات والمصفحات. وأعلن قائدهم أن الصواريخ نُقِلت من ترسانات الجيش الأميركي. علماً أن السلاح المتطور يثير قلقاً في البنتاغون بسبب الخوف من انتقاله إلى أيدي جماعة laquo;القاعدةraquo; وأنصارها.

وتحاشياً لهذا المأزق، اكتشفت واشنطن نوعاً جديداً من الثوار الذين يحملون لقب laquo;الإسلاميين المعتدلين.raquo; وقد حصلوا على بعض الأسلحة وفق شروط مشدّدة. ويقدّر النظام السوري أن هذا الاختبار سيفشل مثلما فشل اختبار laquo;طالبان المعتدلةraquo; في أفغانستان.

حقيقة الأمر أن تراجع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط ناتج من ثلاثة أسباب مرتبطة باستراتيجية السياسة الخارجية التي وضعها أوباما:

أولاً- استقلال الطاقة، ومعنى هذا أن أميركا في عام 2016 لن تستهلك نفطاً مصدره الشرق الأوسط، وإنما ستصبح أكبر بلد منتج للنفط في العالم... أكبر من روسيا ومن السعودية. وقد اتفقت مع كندا والمكسيك على التعويض عن أي نقص في هذه المادة الحيوية.

ثانياً- يرى أوباما أن سياسة سلفه جورج بوش قد فتحت للبلاد جرحاً نازفاً في أفغانستان والعراق. كما أن laquo;الربيع العربيraquo; كان بمثابة عملية مرهقة، أفسحت المجال لظهور ثلاث قوى غير عربية هي: إيران وتركيا وإسرائيل. وعليه، قرر الرئيس الأميركي أن يتعامل مع الواقع حفاظاً على مصالح بلاده.

ثالثاً- من المُلاحظ أن مركز الاهتمام الدولي قد نقل مصالح الولايات المتحدة من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى. وهذا يعني أن واشنطن أصبحت مشغولة بتطور الصين والهند وتايوان وجنوب شرقي آسيا. ويتوقع الإسرائيليون أن يخف اهتمام أميركا بدولتهم وحليفتها التاريخية بريطانيا، بينما تصبح استراليا واليابان وكوريا الجنوبية هي البدائل في سلم الأولويات.

ومثل هذا التغيير الواسع في استراتيجية واشنطن الخارجية، أبعدها تدريجياً عن أصدقائها التقليديين في الشرق الأوسط كالسعودية ولبنان والبحرين. أما علاقتها مع الأردن، فهي باقية بفضل قوة الاستمرار. خصوصاً بعدما سقط المبرر الأميركي للحفاظ عليها سابقاً، كجدار واقٍ يمنع إسرائيل من الوصول إلى نفط الخليج. حيال هذا التحول العميق، لوحظ أن واشنطن تتعاطى بعدم اهتمام مع انتخابات الجزائر ومصر والعراق ولبنان. وكل ما ذكره مساعد وزير الخارجية، لاري سيلفرمان، كان من نوع رفع العتب. وقد ذكر، أمام لجنة العلاقات الخارجية في المجلس النيابي، أن الإدارة قررت الابتعاد عن لعبة الأسماء في انتخابات الرئاسة اللبنانية، وانفتاحها على كل الخيارات بما في ذلك تعديل الدستور، وإعطاء أولوية لتوافق اللبنانيين حول اسم الرئيس المقبل.

وكان بهذا الإعلان يحدد مواصفات الرئيس المقبل بـ laquo;التوافقيةraquo; المُستَبعَدَة في ظل الوضع القائم. والسبب أن السيد حسن نصرالله حدد، في المقابلة المسهبة التي أجراها مع جريدة laquo;السفيرraquo;، خريطة الطريق لعام 2014، ما لم تحدث مفاجأة تبدل في الوضع القائم.

قال إن برنامج رئيس الجمهورية المقبل يجب أن يوافق عليه laquo;حزب اللهraquo;. وإن الحزب ملتزم استمرار المقاومة ضد إسرائيل... وحماية نظام الأسد في سورية.

وهذا معناه، بحسب قاموس laquo;حزب اللهraquo;، إبعاد كل المرشحين الذين يرفضون الانصياع لهذا المنطق... وانتخاب رئيس يتبنى شعارات المقاومة، ويسمح بعودة النفوذ السوري إلى لبنان.

ويبدو أن هذا الإملاء السياسي أنتج ردود فعل غاضبة لدى الكتل المنتمية إلى السنّة والمسيحيين والدروز، وكأن انتصار نصرالله في سورية حقق له انتصاراً آخر في لبنان. وقد تبدّت هذه الحقيقة للجناح المعتدل في laquo;حزب اللهraquo;، الأمر الذي دفع بنائب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم إلى انتهاج خط مهادن يساوي بين اللبنانيين، ولا يميّز طائفة عن أخرى.

وفي لقائه مع أهالي منطقة الشياح، قال لهم الشيخ قاسم: laquo;لا يوجد في لبنان توازن دقيق بين ما يُسمّى 8 آذار و14 آذار. لا هم أكثرية ولا نحن أكثرية. ولو افترضنا العكس، فان طبيعة التوازنات لا تسمح بالغلبة، لأننا بذلك يمكن أن نوجد حالاً من الصدام لا ينتهي. ويبقى التفاهم هو الخيار الوحيد للوصول إلى نتيجة مُرضية في لبنانraquo;.

وزاد على ذلك: laquo;استقرار لبنان هو مطلب إجماع يلتقي حوله الأميركي والعربي واللبناني من جماعة 8 و14 آذار، لأن الفوضى يمكن توظيفها لمصلحة الأزمة السورية. والكل لا يريد ذلكraquo;. ثم دعا إلى إنجاز الاستحقاق الانتخابي الرئاسي في موعده، متعهداً بتحسين لغة الحوار مع كل الأطراف التي تهمها مصلحة لبنان.

وعلى رغم تلطيف لغة الأمر والإملاء التي تحدث بها السيد حسن نصرالله، إلا أن مرشحي الرئاسة توقعوا ترجمة كلامه إلى العمل على تأجيل الانتخابات إلى ما بعد 25 أيار (مايو) المقبل. أي إلى منتصف حزيران (يونيو) المقبل، موعد انتخابات التجديد للرئيس بشار الأسد. ومن الطبيعي أن ينعكس انتصار laquo;حزب اللهraquo; في سورية على المناخ السياسي اللبناني بحيث يبتسم الحظ لمرشح الحزب الذي بقي اسمه سراً حتى اليوم.

أما السيناريو الذي يراه المشككون بدعم laquo;حزب اللهraquo; للحليف العماد ميشال عون، فيتلخص بالتأجيل المتواصل بحيث يقع لبنان في الفراغ السياسي، تماماً مثلما حدث بعد انتهاء ولاية الرئيس اميل لحود. يومها تولت حكومة فؤاد السنيورة ملء الفراغ، مثلما قد تتولى حكومة تمام سلام المهمة ذاتها في حال تكررت تلك السابقة.

الأميركيون يستبعدون حدوث ذلك الفراغ لأنهم عازمون على مصالحة السعودية وإيران، وأن جدول الأعمال يتضمن زيارة الرئيس حسن روحاني إلى المملكة. وفي تقدير واشنطن أن السعودية تملك في لبنان قوة الرفض، مثلما تملك إيران بواسطة laquo;حزب اللهraquo; قوة الفرض. وهذا يقتضي تعاون هاتين الدولتين من أجل انتخاب رئيس لبنان الثالث عشر!