جمال خاشقجي

قبل أعوام وخلال عشاء عمل في العاصمة الأميركية واشنطن، سألت سيناتوراً من الحزب الجمهوري عما يميز حزبه عن غريمه، الحزب الديموقراطي؟ فردّ عليّ وهو يتصنع الحكمة: laquo;ثلاثة أشياء، حكومة صغيرة، ضرائب أقل، والقيم العائليةraquo;. عقبت على قوله: laquo;إذاً، نحن في السعودية ثلثا جمهوريين، فللقيم العائلية اعتبار كبير عند اتخاذ قراراتنا، أما الضرائب فنحن لا نؤمن بها على الإطلاق، ولكن لدينا مشكلة مع حجم الحكومة، فحكومتنا كبيرة ومتشعبة وتعمل بروح أنها مسؤولة عن توفير كل الخدمات للمواطن، تعليمية وصحية، بل حتى توفير السكن، والمواطن يبادلها الشعور نفسه، ويؤمن بأن كل ما سبق هو مسؤولية الحكومة، بل يعتب عليها أنها لا توزع عليه بعضاً من دخل الدولة النفطي بين آونة وأخرى على أساس أننا شركاء فيهraquo;.

تذكرت حديث السيناتور في اليوم التالي عندما مررت بجوار إدارة الصحة الأميركية، في جادة الاستقلال الشهيرة بالعاصمة الأميركية واشنطن، إنه مبنى ضخم ولكن لا يقارن بالمجمع الهائل الذي تتوزع عليه عشرات الإدارات التابعة لوزارة الصحة السعودية على طريق الملك عبدالعزيز بالعاصمة الرياض، الذي يمكن أن تتوه فيه laquo;إدارةraquo; الصحة الأميركية، فما السبب في ذلك؟ إنه ليس بذخاً أو هدراً من الوزارة السعودية وإنما لأنها تقوم ببناء ثم إدارة، ثم تشغيل وتمويل وتزويد مئات المستشفيات والمراكز الصحية من حبة الأسبرين إلى أطباء القلب والأعصاب، ثم عليها المراقبة وتقويم الأداء والمحاسبة، وبالتالي وجب أن تكون لكل مهمة مما سبق إدارة ومدير ونائب مدير وموظفون، ثم تكون هناك إدارة مركزية تقوم بالإشراف عليهم أجمعين، ما يبرر أن تصبح الوزارة هذا الأخطبوط البيروقراطي المتشعب الذي على رغم كل المال والجهد يعجز عن إرضاء المواطن، بل يثير نقمته إذا ما حصل خطأ أو تقصير، وهذا الغضب من حق المواطن حتى لو وصل إلى الوزير نفسه.

بينما إدارة الصحة الأميركية، التي تشرف على صحة نحو 300 مليون أميركي، لا تضم غير أقسام معنية بالسياسة العليا الفيديرالية والتشريع والتخطيط، فهي لا تملك مستشفيات ولا مراكز صحية، تاركة هذا المجال بالكامل لقطاع الأعمال والشركات الكبرى، في حالة متطرفة حتى بالمقارنة مع دول غربية أخرى مثل جارتها الكندية وفرنسا وبريطانيا، حيث تدير الدول مستشفيات ومؤسسات طبية أولية، ما جعل الخدمات الطبية في الولايات المتحدة تتعرض للنقد الشديد، حتى أصبحت أهم قضية انتخابية شغلت الرئيس باراك أوباما، فقدم برنامجاً للتأمين الطبي يريده أن يكون في متناول معظم المواطنين، ولكنه لا يزال مثيراً للجدل ما بين مؤيد ومعارض.

الخبر الجيد أن وزارة الصحة السعودية تتجه نحو نموذج laquo;التأمين الطبي الاجتماعيraquo; لتوفر الرعاية الطبية اللازمة لكل المواطنين بما في ذلك المتقاعدون، وفي الوقت نفسه يخفف عن الوزارة مسؤولية الإدارة المباشرة لمئات المستشفيات والمراكز الصحية بحسب ما أعلن المتحدث باسمها الدكتور خالد مرغلاني الإثنين الماضي، الذي قال إنها رفعت إلى مجلس الوزراء دراسة مفصلة ومقارنة بأفضل أنواع التأمين الصحي للمواطنين، وهو نظام يختلف عن التأمين الطبي التجاري السائد حالياً.

وبغض النظر عن طبيعة النظام الذي يمكن أن تعتمده الدولة، الذي كما أخبرني مصدر مطلع في الوزارة أنه أقرب إلى النظام الاجتماعي المجرّب في كندا وفرنسا، وهو خليط بين الرعاية الطبية الحكومية والقطاع الخاص، وليس النظام الأميركي ذو الطابع التجاري الذي يميز بين الغني والفقير، فإن تطبيق النظام سيؤدي بالتأكيد إلى تقليص تدريجي لمهمات الوزارة المركزية، ويعطي المستشفيات الحكومية مزيداً من الاستقلالية.

هذا التوجه يجب أن يُشجع ليس في السعودية بل في كل العالم العربي، فالتجربة أثبتت أن الأداء الحكومي حتى وإن سلم من الفساد فإنه لا يسلم من البيروقراطية والبطء الناتج من المركزية الشديدة.

وزارة التربية والتعليم في المملكة تنوء بمسؤولياتها الهائلة عن نحو نصف مليون معلم ومعلمة وآلاف المدارس ومستودع مركزي للكتب المدرسية والأثاث ولوازم التعليم وإدارة مشتريات هائلة، ما يشغلها عن مهمتها الأولى وهي تطوير المناهج وسبل التعليم ورفع مستوى المعلمين. إنها المعركة بين الأولويات، laquo;المنتجاتraquo; المتمثلة في الطلاب حيث الإبداع والفكر، أو laquo;الهاردويرraquo; الصلب، ولكن الضروري لإخراج المنتجات الصحيحة.

وزارة الإسكان التي وفّر لها ملك البلاد كل الإمكانات المادية قبل 3 أعوام لتوفير نصف مليون وحدة سكنية يحتاجها المواطنون، اختارت لكي تنجزها أن تصبح المقاول والمطوّر والممول والموزع، بل هي من يختار لون السيراميك ومساحة المطبخ، عوضاً عن أن تكون المشرّع والمخطط والمحفز، وبالتالي عجزت حتى الآن عن إنجاز وحدة سكنية واحدة من مجموع النصف مليون وحدة المطلوبة، إنها تعمل بجهد ولكنها تاهت في دروب laquo;الحكومة المركزية الكبيرةraquo;.

لا نحتاج آينشتاين ليقول لنا إن laquo;فعل الشيء نفسه مرتين بالأسلوب نفسه والخطوات نفسها لن يعطي نتائج مختلفةraquo;، لذلك يجب أن نجرب أسلوباً جديداً وحلاً مختلفاً، وهذا ما فعلته وزارة الصحة السعودية عندما أمضت مع خبراء دوليين عاماً كاملاً، وعقدت 22 ورشة عمل تدرس نظام الرعاية الصحية في 13 بلداً يتمتع أبناؤها برعاية صحية أفضل، ثم رفعت أفكارها الجديدة والمختلفة عما كانت تفعله طوال العقود السابقة إلى مجلس الوزراء، وهو ما ينبغي أن تفعله الوزارات الخدمية الأخرى حتى يرضى المواطن، فالسعادة تكمن في الحرص على القيم العائلية، وألا ندفع ضرائب، وتتحقق بحكومة صغيرة فعّالة. إنها نظرية صحيحة ومجربة، حتى لو قال ذلك سيناتور أميركي من الحزب الجمهوري.