محمد الرميحي

واحدة من الشعارات التى ارتفعت فى الشارع المصرى واخافت كثيرين فى اول ايام الثورة هى ( لازم حازم) من كان يتابع الاحداث فى مصر بعيد 25 يناير 2011 كان يقلق اكثر واكثر على البلد الكبير صاحب الحضارة، ويضع يده على قلبة ، فلقد ظهر ان هناك عددا وافرا من (الدراويش) الذين خرجوا الى الشارع يرغبون فى حكم مصر،وقد ملأوا الشوارع والميادين بجلابيبهم و لحاهم الكثيفة واعلامهم الملونة ، حتى ظن البعض هنا فى الخليج وفى اماكن اخرى من العالم ان ثمة مارداً قد ظهر كان مخبأ دون ان يحسب له حساب من اى من القوى التى فكرت ونفذت الثورة . جامل او استفاد الاخوان المسلمون من هذا التيار الى اقصى درجة من التوظيف السياسى والفكري، الى درجة اتاحت الفرصة لشخص ما فى البرلمان الذى انعقد بعد الثورة مباشرة ان يرفع الاذان وسط الجلسة دون احتجاج او ردع، بل ارتباك واضح ،


كما اصبح الحديث فى ذلك البرلمان له اولية هى (اعادة ختان البنات) الذى منعه القانون قبل ذلك، بل ظهرت خيم فى شكل حجاب واسع على عضوات البرلمان وقتها اللاتى لم يكن باستطاعتهم الكلام! طبعا الاحداث الكبيرة والعميقة التى مرت بمصر قد تجاوزت تلك المرحلة،وكانت مرحلة مرهقة لمصر وايضا للعرب الذين يرون ألا تقدم لهذه الامة الى الامام الا بوجود دولة مدنية، تفصل الممارسة الدينية،وهى ثقافة الجماهير، عن العمل والسلوك السياسى الدنيوي. واحسب ان هذا الامر يحتاج الى بحث وتعميق والى بذل جهد بحثى وسياسى لاستقصائه ، لان تلك القوى فى حالة كمون الآن ولا يستبعد ان تعيد نشاطها من جديد.


ادبيات الاسلام الحركى فى منطقتنا اعتمدت كثيرا على ما انتجه ناشطو الهند المسلمون، فى الربع الثانى من القرن العشرين ، وكان صراعهم وقتها مع الاستعمار البريطانى من جهة وخوفهم من الجماعات الاخرى الاثنية والدينية، قد الجأهم الى التراث، الا انهم فهموه خطأ. فى كتاب ابو الأعلى المودودى ( نظرية الاسلام السياسية) تُرجم ونشر فى مصر،من يقرأ العنوان يعتقد ان هناك نظرية حديثة يقدمها الكاتب ، الا ان المدقق يخرج بعدد من الافكار العامة التى لا تفضى الى نتيجة جديدة،المودودى هو الذى اخترع فكرة الحاكمية التى تبناها بعده سيد قطب ، يحدثنا مترجم احد كتب المودودى عند زيارته الى مصر فى أواخر الاربعينات من القرن الماضي، انه رفض ان تؤخذ له صورة، على ان الصور (حرام)! وعندما نقرأ اليوم كتابه وشروحه نتعرف على الطريق المسدود الذى يواجه مثل تلك الاجتهادات التقليدية، وكاتب آخر هو المرحوم طعيمة الجرف قد حاول الكتابة حول النظرية السياسية فى الاسلام لم يخرج عن المعتاد مما هو معروف، دون أن يستطيع مرة اخرى ان يصل الى مؤاءمة مع النظم السياسية الحديثة. وهكذا نجد انفسنا اليوم اما أمام تفسير ( اعجمي) للاسلام ، او تفسير حركى يوظف النصوص لما يريد ان يحقق من اهداف. لم يستطع الجيل السابق ان يتابع افكار عميقة فى هذا الامر مثل فكرة نجم الدين الطوفى ( اوائل القرن الثالث عشر ميلادى ) الذى قال (اذا تعارض النص مع المصلحة فى غير الاعتقادات والعبادات، قدمت المصلحة على النص) وهو قول استنبطه نجم الدين من حديث للرسول (لا ضرر ولا ضرار) اى ان رعاية المصلحة هى الاولى ان يهتم بها المسلمون، وتعنى تغير الاحكام مع تغير الزمان والمكان، هذه المدرسة لم تتابع وتطور كى نحصل فى النهاية على (فقه المصالح) الذى يرتب على الناس، وخاصة نخبتهم، تحمل مسئولية ادارة حياتهم السياسية والبحث والاستقصاء لانارة الطريق امام الجيل، للاخذ بأسباب التقدم والعمران. امامنا اليوم تحالف (حركي، اعجمي) وانا اقصد هنا بالاعاجم من لا يعرفون حق المعرفة اسرار اللغة العربية، ولا اقصد لا سمح الله المعنى العنصرى بالعكس كان الاعاجم فى السابق الذين اجادوا اللغة العربية وتعرفوا على أسرارها، كان لهم فضل المساهمة الايجابية فى تطور الحضارة الاسلامية. قلت أننا اليوم امام تحالف (اعجمى حركي) للاستحواذ على تفسير النصوص وتوظيفها بالشكل السياسى الذى يخدم اغراضهم السياسية، وهى معركة فكرية لن تنتهى بين يوم وليلة، أخذا بالاعتبار اهمالا طويلا تم فى مدارسنا وجامعتنا عن استخدام المنهج العلمى والعقلى فى الاستدلال، فانتجنا فى النهاية انصاف مُتلقين و انصاف مُرسلين للثقافة الدينية بعضهم (تجار) اكثر مما هم شراح او فقهاء، والساحة العربية مملوءة بهذا النوع الذى يتوسل الدين اما لتحقيق غرض دنيوى كالاثراء، او سياسى كالراسة و السلطة. سيكون امام الجمهور المصرى معركة، بعد معركة الرياسة، هى معركة البرلمان الذى سوف تسعى اليه جماعات تتوسل الدين سبيلا للاقناع ، فى ظل اجواء اقتصادية وثقافية غير مواتية للاهل والعقل والمنطق، من هنا فان الاحتمال وارد ان يستولى هؤلاء على حجم اكبر بكثير من نسبتهم للمجتمع فى مقاعد البرلمان القادم ، ويعود الأمر كما بدأ فى عام 2011 جلابيب ولحى وزبيبة فى وسط الوجهة للتغرير بالبسطاء على انهم اصحاب كرامات وإثرة.

مع انشغال المجتمع والاعلام بمحاربة الارهاب واستخدام ادوات اليد الثقيلة ضد محركى الارهاب، ينسى الجميع اهمية التثقيف، والبعض يرى ان التثقيف فى هذا الامر هو من داخل الافكار المعيبة اصلا على أساس استخراج الدواء من نفس الداء،وهذه فكرة خاطئة تماما لانها تراكم افكارا تقليدية فى ذهن الجمهور، سرعان ما يستفيد منها اهل الداء أنفسهم، فتصبح اضافة جديدة لدعواتهم لا تقليل منها. المطلوب هو السير باتجاه فصل بين الدين والدولة ،وهو ليس جديدا فى تراث المسلمين، بل هو القاعدة، فلم تكن الدولة فى عالم المسلمين دولة دينية قط بعد انقضاء النبوة، بل كانت فى كل اطوارها دولة يمكن ان يطلق عليها كلمة ( المدنية) لإنها اهتمت بمصالح الناس، اما الاعتقاد والعبادة فهما متروكان للافراد يقيمونهما حيث يشاءون،كل بالطريقة التى يانس لها.

ارى ان هذا هو التحدى الاكبر الذى يواجه العرب اليوم ومصر هى البوابة التى يمكن أن تودى الى طريق التقدم والتنمية بعيد عن الخلطة السامة بين الدين والدنيا.