سالم حميد

أربع سنوات فقط هي العمر الفاصل بين نهاية الدولة العثمانية في عام 1924 ومولد جماعة الإخوان المتأسلمين الإرهابية على يد مؤسسها الظاهري حسن البنا في عام 1928، كصنيعة بريطانية صرف لإحلال التنظيم الجديد محل الأتراك الذين نالوا ما يكفي من حصص في السياسة العامة للمنطقة، ولم يعد لهم نفع يرجوه الإنجليز الذين أحسوا بحركات التحرر الشعبية التي انتفضت وقتها على الاحتلال التركي للوطن العربي الذي حاول جاهداً إنقاذ نفسه بعدما انتهت مهمته الرسمية في حكم المنطقة، خاصة وأن الأتراك كانوا قد أثقلوا كاهل الشعوب العربية والإسلامية بالجهل والضرائب والحروب التي لم تتوقف طوال فترة حكمهم.

وبقيام التنظيم الإخواني المتأسلم، لم تقاوم تركيا بعدما وجدت ذات أفكارها تتجدد في هذا الكيان الجديد الذي حمل توقيع ذات الصانع. ولم تشأ الاستخبارات البريطانية ارتكاب ذات الخطأ الذي أفقدها الدولة العثمانية، فلم تضع البنّا مباشرة على كرسي الحكم، ولكنها وجهته للتحرك تجاه القاعدة الشعبية التحتية، وهي المعادلة التي غفلت عنها الاستخبارات البريطانية في رسمها طريق الدولة العثمانية، ما جعل القواعد الشعبية تشكل سبباً مباشراً لسقوط الإمبراطورية التي تمددت في معظم مساحات المنطقة.

ولأن الحركات التحررية أفلحت بعد ذلك في إجلاء الإنجليز الذين حاولوا القضاء عليها بواسطة التنظيم الإخواني المتأسلم دون جدوى، والرحيل قبل أن يتمكنوا من تعليم الإخوان طرق الجلوس على كراسي الحكم وكيفية إدارتها والتعامل معها، لذلك بقيت الجماعة طيلة فترة وجودها تبرع في استقطاب الطلاب والفتيات باسم الدين، ولكنها كانت دائماً تفشل فشلا ذريعاً عند توليها أية مهمة تختص بشأن الدولة، وهو ما أدركه أحفاد العثمانيين الذين يحكمون الدولة التركية الآن، فالمفاهيم الأردوغانية التركية، ومفاهيم التنظيم الإخواني المتأسلم متطابقة تماماً، غير أن الأتراك يملكون الخبرة في إدارة الحكم وهو ما ينقص الإخوان المتأسلمين، زائداً على أن جماعة أردوغان لازالت تعتقد بإمكانية إعادة التاريخ إلى الوراء، وبسط نفوذ إمبراطورية تركية جديدة، تستفيد هذه المرة من معرفة الإخوان المتأسلمين بطرق الاستقطاب، وطرق مواجهة الشعوب لو دعا الداعي، ونتج عن تلك الرغبة التي لاقت هوى إخوانياً، خاصة بعدما تخلت بريطانيا عن الملف ومنحت التنظيم الإخواني باكراً للمخابرات الأميركية التي مكنته من صناعة علاقات جيدة مع مختلف أنظمة الاستخبارات الغربية التي تتسق مع السياسات والأطماع الأميركية في المنطقة.

ويدرك العراب التركي أردوغان بأن المسألة ليست سهلة أو بسيطة، فهو يحتاج الكثير لتحقيق تلك الأحلام، وقد استفاد من أخطاء التشدد الإخواني بصنع معادلة تزاوجية غريبة بين حزبه الإسلامي، والنظام التركي العلماني، وهي مرحلة كلفته الكثير من الوقت للتخلص من صدامه مع الجيش التركي الذي وقف بقوة مع الرغبة الشعبية القاضية بالحفاظ على العلمانية التي أسسها الزعيم التركي الراحل أتاتورك، وانتهى الصدام بوصول حزبه للسلطة، غير أنه لم يتمكن من أخونة تركيا رغم محاولاته المستميتة للتغلغل في الجامعات والمدارس، وخداع البسطاء ومحدودي التعليم بشعارات فضفاضة تتوافق مع تلك التي ترفعها جماعة الإخوان المتأسلمين في المنطقة العربية.

أما بريطانيا التي أدركت فداحة خطئها بتسليم التنظيم الإخواني أو بالأصح وهبهُ للاستخبارات الأميركية، فلازالت تعض على أصابع الندم، ذلك أن التنظيم الإخواني كاد يخرجها تماماً من المنطقة بطريقة أو بأخرى، فهو يستهدف حلفاءها ومصالحهم المرتبطة بمصالحها، وهو أيضاً يتحرك حاملا معه ملّاكا جدد للمنطقة التي تعتبرها بريطانيا تاريخياً من أهم مستعمراتها القديمة التي يجب أن تكون هي صاحبة النفوذ الأول فيها، والمتمتعة دائماً بأفضل العلاقات معها، ففي سبيل هذا النفوذ خسرت بريطانيا الكثير، ودخلت في عدة صدامات تاريخية مع دول أوروبية.

غير أن العجوز الإنجليزي اليوم لم يعد بريطانيا الأمس التي لا تغيب عنها الشمس، وهو مقابل ذلك يرى صنيعته تتسبب في محاولات إخراجه بلا فائدة، ما جعل لندن تدرس احتمالات إعلان تنظيم الإخوان إرهابياً، وهو ما سيقطع الطريق أمام كل طموحاته التي تتخفى وراءها أجنداته السرية.

أردوغان الذي داعبته أحلام عودة الخلافة العثمانية التي يشترك في مضامينها ومعانيها مع التنظيم الإخواني الذي يسعى لذات الهدف في محاولاته إحداث فوضى بالمنطقة لتحقيق وهم دولة الخلافة الإخوانية، لم يضيّع الوقت في الترحيب بالجماعة واحتضانها ودعمها وتوحيد أهدافه معها لدرجة أشبه بالإندماج، وجمع الحلم المستحيل بين طرفين مختلفين تماماً، طرف يملك الحكم والقدرة على التحرّك والتأثير، وطرف وقفت ضده إرادة شعوب المنطقة بعدما جرّبته لفترة زمنية قصيرة كانت كافية للحكم عليه وتحديد مستقبله السياسي، فقامت تركيا بمناصرة الإخوان، ساعدتها على ذلك إسرائيل التي كتبت لها ومثّلت معها كل فصول دراما السفن التي حملت نشطاء إلى شواطئ غزة، وهدفت بذلك لإيهام شعوب المنطقة المؤمنة بقضية فلسطين، بأن الدولة التركية المتحالفة مع إخوان الشيطان تهتم بقضايا المنطقة، وتعمل أعمالا بطولية لمواجهة الكيان الإسرائيلي.

وشارك أردوغان بفعالية واضحة في العملية الإخوانية التي أطلقوا عليها laquo;الربيع العربيraquo; والربيع منها براء، فقامت حكومته الإخوانية بدعم الجهاديين في سوريا، وتدخلت في مختلف قضايا المنطقة، ووقفت بصلابة شديدة مع أعضاء وقادة التنظيم الإخواني المتأسلم حين تم طردهم من حكم مصر، وتدخلت في تسيير مختلف الكيانات الهلامية التي أنشأها الإخوان للتضييق على الشعوب والأنظمة، كـlaquo;هيئة علماء المسلمينraquo; التي صنعوها لتكون جلّاداً يصدر الفتاوى التي يريدها الإخوان، ويعاقب من يعارضها معاقبة الخارج عن الملة والدين، وأيضاً احتضن أرودغان العديد من المؤتمرات التي توافق فيها مع التنظيم الإخواني على مفهوم التغيير المبهم، إضافة لتدخله العسكري غير المعلن في أماكن مختلفة، ولو عبر خبراء عسكريين أو أسلحة أو استشارات وخطط، وقدّم كامل الدعم الإعلامي لمواجهة التنظيم الإخواني لشعبه في مصر وغيرها، وتطاول على دولة الإمارات لا لسبب سوى أنها رفضت التنظيم الإخواني المتأسلم الذي يعتبره أردوغان الوجه الثاني لحزبه laquo;العدالة والتنميةraquo;، وبدأ بطريقة غير مباشرة في محاولة إقامة حلف جديد كقاعدة للإمبراطورية الأردوغانية الجديدة، وهو حلف جمع كل الدول التي يتحكم فيها التنظيم الإخواني المتأسلم بطريقة أو بأخرى، رغم أنه في الداخل لم يختلف عن تنظيم الإخوان، فالصانع واحد والعقلية واحدة، فرغم تحركه المحموم في الخارج لإنقاذ ما تبقى من التنظيم الإخواني الحليف المندمج، فإن روائح الفساد قد أزكمت الأنوف التركية في الداخل، وتعامل مع تلك القضية بذات التعامل الإخواني، فقام بإقالة العديد من أفراد الشرطة والجيش في خطوة واضحة لمواجهة كل من يحاول كشف الحقيقة، وفي ذات الوقت قام بإغلاق وقطع خدمات التواصل الاجتماعي عن المتصفح التركي، وقام بسحق الاحتجاجات بطريقة وحشية نقلتها مختلف وسائل الإعلام التركية والأجنبية، فإلى أين يريد أردوغان الوصول؟