عبدالله بن بجاد العتيبي

اجتمع وزراء الخارجية لدول مجلس التعاون الخليجي في الرياض الأسبوع الماضي 17 أبريل 2014 وأصدروا بياناً مهماً quot;تمّ خلاله إجراء مراجعةٍ شاملةٍ للإجراءات المعمول بها فيما يتعلق بإقرار السياسات الخارجية والأمنية، وتمّ الاتفاق على تبنّي الآليات التي تكفل السير بشكلٍ جماعيٍ، ولئلا تؤثر سياسات أي من دول المجلس على مصالح وأمن واستقرار دوله ودون المساس بسيادة أي دولةٍquot;.


إذن فنحن أمام موقفٍ واعٍ بضرورة تطوير بعض المبادئ والأسس التي بني عليها المجلس منذ عقودٍ للتأكيد على بعضها وتطوير البعض الآخر لا لمواكبة التغييرات الكبرى، بل لضمان مستقبلٍ أكثر ثباتاً ورسوخاً وأكثر مرونةً في الآن ذاته.

ربما بنفس الأهمية أو أكثر في المرحلة الحالية، هو ما جاء في البيان من أنه تمّ التأكيد على quot;الاتفاق على أهمية التنفيذ الدقيق لما تمّ الالتزام بهquot; وهو كلامٌ يشير بوضوحٍ إلى الأزمة مع دولة قطر الشقيقة.

لوضع المشهد الحالي في إطاره التاريخي ينبغي استحضار شيءٍ من تفاصيل الأزمة بين دول الخليج من جهةٍ وقطر من جهةٍ أخرى، لتسليط الضوء على أنها أزمةٌ قديمةٌ تقارب العقدين من الزمن منذ بدأت السياسات القطرية تأخذ اتجاهاً مغايراً لدول الخليج في السياسات العامة والذي تطوّر إلى هجومٍ إعلاميٍ مكثفٍ عبر قناة quot;الجزيرةquot; الإخبارية التي هاجمت دول الخليج بانتظامٍ وبطرقٍ غير مسبوقةٍ في أوقاتٍ متعددةٍ.

استمرت قطر في تصعيد هذه السياسات وفي الابتعاد عن دول المجلس حتى بدأت تأخذ سياساتها طبيعةً مناكفةً لدول المجلس وبالذات المملكة العربية السعودية في غالب الملفات الإقليمية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فحين كانت دول الخليج تدعم القضية الفلسطينية، سعت قطر جهدها لتفريق الصف الفلسطيني عبر دعمها لحركة quot;حماسquot; الإخوانية حتى قامت بالانقلاب في غزة وشقت الصفّ، وحين دعمت دول الخليج الدولة في لبنان قامت الدوحة بدعم quot;حزب اللهquot; وحلفائه، وحين أعلن تنظيم quot;القاعدةquot; حربه على العالم في تفجيرات 11 سبتمبر 2001 وعلى السعودية في 2003 كان بعض قادة التنظيم يجدون ملجأً آمناً في الدوحة.

ومن بعد جاء دعم حركة quot;الحوثيquot; الشيعية في اليمن، ومن قبل ومن بعد كان التحالف مع جماعة quot;الإخوان المسلمينquot; وفروعها ورموزها شاملاً وكاملاً، وبعد 2011 وأحداث ما كان يعرف بـquot;الربيع العربيquot; حسبت أنها بقنواتٍ فضائيةٍ وقاعدةٍ أميركيةٍ وبئر غازٍ وتحالفاتٍ مع جماعة quot;الإخوان المسلمينquot; والإسلام السياسي قادرةٌ على تغيير المنطقة واللعب مع الكبار، وقد خابت الظنون وإن حصلت مرحلياً على شيءٍ من مبتغاها لم يطل أمده.

ولكن لحظة الحقيقة لم تطل الغياب، ففشل quot;الربيع العربيquot; فشلاً ذريعاً، وافتضحت جماعة quot;الإخوان المسلمينquot; فضيحةً تاريخيةً وسقط حكمها في مصر، وكان الأشد هو افتضاح خططٍ كانت تدار من الدوحة ضد غالب دول الخليج، وظهرت تسريباتٌ لبعض المسؤولين القطريين وهم يتحدثون عن مؤامرةٍ لإسقاط السعودية ونشر الفوضى فيها، وعن مؤامراتٍ شارك فيها بعض رموز quot;الإخوانquot; في الخليج ضد بلدانهم وبتمويلٍ قطريٍ كاملٍ يمكن حين يتمّ جمع أجزائه مع بعضها البعض استخلاص استراتيجيةٍ كاملةٍ كانت تديرها الدوحة ضد دول الخليج.

وجاءت لحظة الحقيقة في مجلس التعاون الخليجي فتحالفت ثلاث دولٍ طالتها المؤامرات التخريبية وساءتها السياسات المعادية وهي السعودية والإمارات والبحرين فحاول الأمير الجديد إصلاح الوضع مع السعودية وسافر مع أمير الكويت للرياض وسمع كلاماً صريحاً من العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز ووقع تعهداً خطياً بالالتزام بالصفّ الخليجي سياسياً وأمنياً، ولكنه لم يصنع شيئاً في التنفيذ والتغيير، فجاءت لحظة سحب السفراء الثلاثة من الدوحة، وقدمت الدوحة الوعود، ولكنّ أحداً لم يقتنع بها، وكان لا بدّ من موقفٍ واضحٍ وصريحٍ يحتمّ إما استمرار مجلس التعاون ضمن أسسٍ جديدةٍ، وإما بناء منظومةٍ إقليميةٍ جديدةٍ بمصالح متكاملةٍ ومتشابكةٍ لا تشمل أي نوعٍ من العداء، وإما أن تعود قطر إلى الحضن الخليجي من جديدٍ.

هذا السرد التاريخي للأحداث مهمٌ لرسم صورةٍ كبيرةٍ للمشهد الحالي، وهنا يجدر التنبيه على عدة نقاط كالتالي: أولاً: إن العمق الاستراتيجي لقطر يكمن في دول الخليج العربي وليس في إيران ولا الإخوان، ولا في تركيا أو السودان. وكم ستسعد دول الخليج قادةً وكتاباً وشعوباً فيما لو اختارت قطر عودةً كاملةً للصف الخليجي.

ثانياً: بحسب ما جاء في البيان فإنه لن يكون مقبولاً بأي شكلٍ وأية طريقةٍ أن تستمر قطر في سياسات العداء والتآمر أو الاستمرار في ضبابية السياسات والوعود المموهة، فلحظة الحسم لا تعني شيئاً سوى الحسم.

ثالثاً: حاولت قطر للأسف وبحسب الأساليب القديمة أن تفاوض السعودية على حدةٍ لشق صف الدول الثلاث ولكن محاولاتها اصطدمت بإرادةٍ سياسيةٍ واعيةٍ وتحالفٍ وثيق العرى وجاءت لغة تصريحات وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل لتضع النقاط على الحروف.

رابعاً: رفضت الدول الثلاث أي نوعٍ من الوساطة دولياً أو إقليمياً وأصرت على موقفها بضرورة أن تراجع قطر مواقفها واستراتيجياتها وأن تلتزم التزاماً كاملاً بالعودة للحضن الخليجي.

خامساً: ينبغي أن يعلم الأشقاء في قطر أن عداء الساسة يمكن حلّه عبر الطرق الديبلوماسية بكل ما تحتويه من قوةٍ ومرونةٍ ولكن عداء الشعوب شديدٌ وبطيء التغير، وقد بدأت الشعوب الخليجية تعبّر عن استياءٍ غير مسبوقٍ تجاه الدوحة وهي بتحريضها بعض الأشخاص من مواطنيها وممن استقطبتهم من دول الخليج والدول العربية على رفع مستوى الخصومة إنما تصنع ما صنعت quot;براقشquot;.

ثمة أسئلةٌ مهمةٌ وتفاصيل بغيضة موضوعةٌ على الطاولة ويجب أن تكون إجاباتها صريحةٌ توضح اللبس أو تعتذر عن الخطأ، والتفاصيل البغيضة لا تحلّ على طريقة نسيان الماضي وquot;عفا الله عمّا سلفquot;، بل بفتحها واحداً واحداً وإصلاحها وضمان عدم تكرارها قبل تجاوزها وتنقية الأجواء حتى يمكن أن تعود متانة التعاون ولغة المصالح العليا ووحدة الصفّ وروح الإخاء لتسود من جديدٍ.

أخيراً، الكلّ يريد عودة العلاقات إلى طبيعتها بين دول الخليج وقطر ولكنّ التراجع الشجاع عن أخطاء طويلة الأمد في مدة قصيرة يحتاج إلى قراراتٍ أكثر شجاعةً وصراحةً.